في الشأن التربوي : مستقبل السياسات التعليمية يحكمه التعاون والتضامن والشراكة
إن تحقيق ما تصبو إليه المجتمعات من رفاهية وعيش كريم في ظل ما يشهده العالم من تغيرات سريعة لا يمكن أن يتحقق بدون مشروع تربوي تعليمي جيد وذي جدوى يلعب دورا حيويا في تلبية حاجيات الناشئة المستقبلية وتحقيق الأهداف المرجوة .
ومن بين الطروحات المهمة التي أكدت عليها الدراسات وخاصة المنظمات العالمية مثل اليونسكو حول إعادة التفكير في مستقبل التعليم في العالم الدعوة إلى تطبيق مقاربة التعاون والتضامن والشراكة بين المتدخلين والفاعلين في المنظومات التربوية تصل بهم إلى صياغة عقد اجتماعي مبتكر ومتفق عليه يحدد المبادئ الكبرى للتعاون بين تلك الأطراف من أجل سياسات تعليمية أفضل . فكيف نوظف التعاون والتضامن والشراكة في هذا المجال ؟
من التعاون نحو الشراكة
إن تنظيم السياسة التعليمية على مبادئ التعاون والتضامن والشراكة ، باعتبارها شكلا من أشكال التفاعل في المجتمع بين الأفراد والجماعات ، يدعونا إلى ضرورة التفريق بين تلك المفاهيم حتى نجد لها مكانا للتطبيق في المنظومة التربوية . فالتعاون هو العمل بين جماعات أو أفراد أو دول على تحقيق هدف مشترك، أما التضامن فهو سلوك إنساني يتعاطف بمقتضاه شخص أو مجموعة لتقديم مساعدة لشخص آخر أو مجموعة يشكون الحاجة، أما الشراكة فهي أن يلتقي عدد من الأطراف الشركاء إن كانوا أفرادا أو جماعات أو دولا من أجل تحقيق مصلحة واحدة مع توظيفهم كل القدرات والمهارات والموارد المتوفرة لتحقيق منافع مشتركة بينهم في إطار التوافق. ولذلك تتطور العلاقات الاجتماعية من التعاون بين الفاعلين فيها إلى الشراكة وهو المستوى الأعلى لتلك العلاقات التي يمتثل إليها الشركاء .
لذلك فتطبيق تلك المفاهيم في أي نشاط إنساني يساعد على تنمية العلاقات الاجتماعية ويوحد بين أفرادها مهما كان اختلافهم أو تنوعهم كما يساعد على الحد من الحاجة بين أفراد المجتمع وجماعاته مما يؤسس لحياة سليمة بينهم وبالتالي تحقيق أهداف التنمية المستدامة للمجتمع وتحقيق الأمن والاستقرار الاجتماعيين.
لذلك ولصياغة مشروع تربوي تعليمي ولبناء سياسة تربوية مستقبلية مبتكرة من الضروري العمل بمبادئ التعاون والتضامن والشراكة داخل المنظومة وبين المنظومة والفاعلين داخلها وبينهم وبين المتدخلين خارجها محليا وجهويا ووطنيا وخارجيا أيضا آخذين بعين الاعتبار التغيرات المستقبلية المنتظرة في العالم وحاجياتنا المستقبلية والأهداف التي نرنو إلى تحقيقها .
التعاون والشراكة في التربية
يلعب التعليم دورا أساسيا في تنمية المجتمعات الإنسانية وبناء مستقبل مستدام للبشرية ويتحقق ذلك عندما نتمكن من رفع التحديات التي تواجه التعليم في المستقبل مثل مخاطر التطور التكنولوجي والتغيرات الاقتصادية والمناخية والأزمات الدولية والأوبئة والبطالة والفقر والعنف … وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا بتظافر الجهود على كل المستويات التي تمس التعليم وبتعاون كل الأطراف الفاعلة مع بعضها البعض للتفكير بطريقة مختلفة مما يساهم في وضع تصورات جديدة للنهوض بالتربية والتعليم مستقبلا وجعلها تتلاءم مع كل التحولات في العالم . وستساهم تلك التصورات التي بنيت على التعاون والشراكة في تجاوز قضايا الاختلاف التمييز وستركز مبدأ احترام التنوع وهكذا يصبح التعليم خدمة مقدمة للمجتمع بموجب تلك المبادئ .
وفي هذا الإطار فالمدرسة مطالبة بإرساء علاقات تعاون من خارجها مع الأسرة ومع المجتمع المدني المحلي ومع المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية الفاعلة في المجتمع … بتنظيم علاقة التعاون أو الشراكة معها أساسها الثقة بين جميع الأطراف والعمل على تبادل الخبرات ، وهي مطالبة أيضا بتقنين إجراءات البناء المشترك مع هؤلاء الشركاء في المجالات التي تدفع بالمدرسة إلى تجويد أدائها ومردودها وطريقة اشتغالها حتى تتحقق العلاقة التكاملية بين المدرسة والمجتمع والأسرة . ويمكن أن يتناول التعاون مع تلك الجهات كل ما يتعلق بالعملية التعليمية وكذلك التربوية وتغطي جميع الفئات المستهدفة في المجال التربوي دون تمييز بمراعاة الاختلاف وذلك بهدف تحسين أداء العملية التعليمية التعلَمية وتوطيد العلاقة بين المنظومة وشركائها وخاصة تقوية العلاقة بين المدرسة والأسرة وتعزيز جسور التواصل والحوار وتبادل الآراء بينهما لاتخاذ القرارات المشتركة التي تساعد على حل الإشكالات وتذليل الصعوبات من أجل تحقيق مصلحة المتعلمين . دون أن يغيب عنا أن التوافق بين الجميع هو أساس تلك الشراكة على أن يكون ذلك ضمن القيم المجتمعية السائدة .
والمدرسة مطالبة أيضا بفرض التعاون داخلها من خلال تشجيع المدرسين على العمل معا وفق فرق عمل تشاركي يقوم على المشاريع المشتركة بحيث نتخلص مثلا من مقاربة المواد المنفصلة بعضها عن بعض لنطبق مقاربة تراشح المواد فيما بينها وهو ما يحتم على المدرسين العمل معا من أجل استثمار مهاراتهم وكفاياتهم المختلفة في إنجاز ما يرغبون في إنجازه. وهو ما يغير تمثلاتنا لمهنة التعليم التي تعتبر المدرس اليوم مستقلا عن بقية المدرسين لننتقل إلى تصور جديد يجعل منها مهنة تشاركية لا تمارس إلا عبر التعاون الجماعي وتبادل المعارف والخبرات بين فرق المدرسين .
وأخيرا يمكن نقل ذلك التعاون داخل القسم باعتماد مقاربات بيداغوجية تشجع على العمل معا مثل التعليم القائم على المشاريع ليصبح المتعلم شريكا أيضا في العملية التعليمية التعلَمية . فيتعلم التلميذ من خلال ممارسته للعمل التشاركي معنى المسؤولية وكيفية اتخاذ القرار الذي لا يربك المجموعة بل يدعمها ويدفعها إلى الأمام , ومن المهارات التي تمكنه منها هذه المقاربة قبول الآخر والاستماع إليه وقبول الاختلاف والاستماع إلى النصيحة وممارسة آليات حل المشكلات واستعمال التفكير النقدي والإبداع . ومن المبادئ التي يتشبع بها التلميذ ويصبح مؤمنا بجدوى ممارستها لنجاح العملية التربوية نذكر مبادئ التعاون والتآزر والتضامن والتشارك مما يساعده على فهم عالمه بمعية زملائه والاستعداد للإسهام فيه ينمي المهارات الاجتماعية لديه . كما تسمح هذه المقاربة للتلاميذ بأن يتعلموا من بعضهم البعض ، وقد أثبتت الدراسات التربوية جدوى هذه العملية خاصة بالنسبة للتلاميذ الذين يشكون صعوبات في اكتساب بعض المعارف . وحتى لا تتقلص فرص التعاون بين المتعلمين من الأفضل إنهاء العمل بمقاربة التنافس بين المتعلمين.
إن إرساء سياسات تربوية وتعليمية مستقبلية وتنفيذها لا بد أن يكون قائما على التعاون والتضامن والشراكة بين المنظومة التربوية وكل الفاعلين والمتدخلين في الشأن التربوي مما يساهم في الارتقاء بأداء المنظومة التربوية ودعم الترابط والتآزر بين كل فئات المجتمع مهما كانت مكانتهم الاجتماعية والثقافية والفكرية …
(❊)باحث وخبير في الشأن التربوي
عدد الشهداء في غزة في ارتفاع : نحو 44 ألف شهيد وأكثر من 100 ألف جريح
الصحافة اليوم (وكالات الأنباء) في آخر إحصائياتها، أعلنت وزارة الصحة في غزة، أن قوات الاحتل…