مرّت ذكرى أحداث جانفي 78 وهي لحظة مفصلية من تاريخ تونس المعاصرة عندما احتج الشعب التونسي بشكل عفوي تحت راية اتحاد الشغل الخيمة التي كانت دوما ملاذا لعموم التونسيين وحاملة لانتظاراتهم وأحلامهم .وكان الخميس الأسود مواجهة دامية بين التونسيين المنضوين تحت لواء الإتحاد وبين السلطة في ذلك الوقت.
فقد أعلن الإتحاد عن الإضراب العام في البلاد يوم الخميس 26 جانفي وجاء ذلك بعد شرخ عميق في علاقة المنظمة الشغيلة بالحزب الدستوري الحاكم بدأ يظهر منذ بداية السبعينات بعد أن رفضت السلطة وقتها المطالب النقابية والعمالية والسياسية ومضى نظام بورقيبة في تعنته في ظل سياق سياسي مشتعل تكالبت فيه «الحاشية» المحيطة بالزعيم على خلافته عندما استفحلت أمراض الشيخوخة لديه.
وعاش التونسيون حالة من القلق العام وغياب الأفق مع تفاقم أزمة اقتصادية وسياسية مركبة تجلت آثارها في الشارع مع تنامي الاحتجاجات والمظاهرات التي طبعت الشارع التونسي. وكان ذلك إيذانا ببداية اشتعال فتيل عمّ البلاد. ولم تنجح المساعي الداخلية والخارجية في رأب الصدع بين الفرقاء من قيادات الاتحاد والحزب الحاكم.
وكانت المواجهة حتمية اعتمد فيها نظام الزعيم بورقيبة الحل الأمني لمواجهة الاحتجاجات الشعبية التي قام اتحاد الشغل بتأطيرها.
والنتيجة كانت دامية بعد نزول الجيش إلى الشارع وأفادت بعض التقارير المستقلة بأن هناك 400 مواطن سقطوا قتلى في حين وصل عدد الجرحى إلى حوالي ألف. بينما أقرت الحكومة وقتها بسقوط 52 قتيلا وحوالي 365 جريح.
ومهما يكن من أمر فإن الخميس الأسود ظل نقطة معتّمة في تاريخ تونس وفي علاقة السلطة بشعبها وعنوانا للقمع في أعتى تجلياته.
ونحن نحيي هذه الذكرى من المهم أن نطرح بعض الأسئلة المركزية:
هل يعد الاحتجاج ملمحا أساسيا من ملامح علاقة التونسي بالفاعل السياسي على مدار التاريخ؟
وما الذي يحرك التونسي ليخرج متظاهرا ومحتجا على السلطة القائمة هل هي معطيات المعيش المادي أم القضايا الفكرية والحقوقية ؟
وهل ثمة علاقة جدلية بين التوترات الاجتماعية والأزمات الاقتصادية والسياسية؟
و إلى أي مدى يؤدي التناغم بين السياسي والاجتماعي آليا إلى الهدوء والاستقرار؟
من المتفق عليه أن ثقافة الاحتجاج والمطالبة بالحقوق متأصلة في كيان التونسي والشخصية القاعدية له عبر الأحقاب التاريخية. ويمكن القول إنه ثمة علاقة جدلية بين السلطة في تونس والشعب الذي يعبر عن تبرّمه واستيائه بأشكال مختلفة.
وعرفت العلاقة بين التونسيين وحكامهم مدّا وجزرا منذ فجر التاريخ حتى اليوم.
وما تزال صفحات التاريخ التونسي تحتفظ بوقائع ثورة علي بن غذاهم باي الشعب الذي رفع لواء التمرد والثورة على الجباية المجحفة التي أثقل بها البايات الحسينيون كاهل الشعب التونسي. تماما كما يحتفظ المخيال الجماعي بانتفاضة 14 جانفي 2011 التي أدت إلى كنس رأس النظام الذي سقط تحت وقع شعارات إرادة الحياة اكتظت فيها معاني الخبز والكرامة والحرية والشغل والعدالة والتنمية. وكلها انتظارات كان التونسي دوما يرنو إلى إشباعها.
وهذا بيت القصيد في علاقة التونسي بالسلطة على امتداد العصور ولعله منذ الدولة الحفصية حتى اليوم فقد كان الاحتجاج هو الرد الذي يجابه به أي نظام سياسي ينكّل بالتونسيين أو تسوّل له نفسه أن ينتهك حقوقهم المادية والمعنوية.
واليوم يعيش التونسيون حالة يمكن وسمها بـ«الهدوء النسبي» وكأن هناك حالة لتفهم الوضع القائم حيث يدرك عموم التونسيين أن الوضعية الاقتصادية الصعبة وتدهور مقدرتهم الشرائية مرتبط بعوامل عديدة أولها غياب الحوكمة الذي طبع العشرية السابقة والتركة الثقيلة التي وجدتها الحكومة الحالية بالإضافة إلى العوامل الخارجية والتحولات الكبرى التي يعيشها العالم منذ جائحة كورونا مرورا بحرب روسيا وأوكرانيا ثم حرب غزة التي أثرت على كل الاقتصاديات.
هذا دون أن نغفل عن حالة التبرّم التي يعيشها التونسي من الطبقة السياسية التي حكمت على امتداد عقد من الزمن وثقة نسبة كبيرة من التونسيين في السلطة الحالية رغم التحفظ على الكثير من الأوضاع التي يعانون منها. كما أن الوعي العميق لدى الجميع بأهمية الاستقرار كمنطلق لأي إنجاز على أرض الواقع يعدّ أيضا معطى محددا في سلوك التونسيين في المرحلة الحالية.
كما أن علاقة اتحاد الشغل بالسلطة حاليا حتى وان كانت غائمة أو في منزلة بين منزلتين إلا أنها تبدو قائمة على قدر عال من التفهم لإكراهات الأوضاع الداخلية والخارجية. ولا تبدو المنظمة الشغيلة في الوقت الحالي مستعدة لمغامرات غير مأمونة العواقب قد تؤدي إلى ما لا يحمد عقباه.
مرفق القضاء حجر الأساس في بناء الدولة ومؤسساتها : ..والعدل أساس العمران..
هل نحتاج الى استحضار مقولة علاّمتنا الكبير عبد الرحمان بن خلدون: «العدل أساس العمران» للت…