مقاربة الرئيس قيس سعيد في علاقة تونس بالدول والصناديق المانحة لا يمكن في كل الاحوال معارضتها أو التصدي لها بالرفض باعتبارها متأسّسة على قيم مشتركة وعلى خطاب سيادي يرفض كل أشكال الإملاءات وكل أشكال التدخل في الشأن الوطني ويمكن توصيفها ـ هنا ـ بالمقاربة الوطنية التي تحرص على أن تكون «السيادة» مبدأ وخطا أحمر لا مجرد عنوان للتسويق الاعلامي..
نحن ـ هنا ـ أمام «خطاب قيم» غير معزول عن ارادة الشعب ولا عما تطمح اليه الدولة الوطنية لكنه وفي المقابل يتعارض مع قيم «الرأسمالية المعولمة» التي تدير العالم «بقيم توحّش» كبرى ولها من الامكانيات ما يؤهلها لانهاء بل القضاء على ما أسميناه «خطاب قيم» والذي يتبنى مقاربة ترفض كل الشروط التي تفرضها المنظومة الرأسمالية لمساعدة الدول النامية والتي تطمح الى تطوير اقتصادياتها بشروطها الوطنية لا بشروط الدول أو الصناديق المانحة كما هو الحال في تونس..وهنا نطرح ذاك السؤال المعقّد والضروري حتى لا نؤخذ على غرّة كما يقولون فهل أن تونس ـ اليوم ـ بما هي عليه من وهن اقتصادي مؤسساتي (باعتبار ان الازمة هيكلية وليست ظرفية) بإمكانها ان تواجه مصيرها لوحدها دون شركاء ودون الانخراط في ما يسمى بالتضامن الدولي وهو تضامن له شروطه ـ أيضا ـ والتي تتنافى مع ما يطرحه الخطاب الوطني (خطاب القيم كما أسميناه) الرافض لكل الاملاءات والشروط الخارجية التي تفرضها الدول المانحة…؟ وهل يمكن لمقولة «التعويل على الذات» أن تصمد أمام هذه التغيرات المهولة في العلاقات الدولية زائد ثقل الديون الخارجية مع تغيّرات مناخية قاسية على الاقتصاديات الوطنية زائد توسع الفجوة بين الشمال المتعالي على الجنوب…
مقاربة الرئيس قيس سعيد في هذا السياق وكما أشرنا لا يمكن الاعتراض عليها بل هي مقاربة «دولة» متمسّكة بسيادتها الوطنية ترفض كل شروط واملاءات الاطراف الخارجية وتؤكد على «أن الاصلاحات التي تقوم بها تونس يجب ان تكون تونسية خالصة تنبع من ارادة الشعب التونسي» وهذه ـ أيضا ـ مقولة لا يمكن الاعتراض عليها شرط ان تتوفر بدائل هيكلية لهذه الاصلاحات مع امكانيات مالية ضخمة لتمويلها ولتحويلها الى أمر واقع وهذا لا يمكن تحقيقه «بارادة شعبية» وإنما بالتوجه الى الاطراف الدولية المانحة ولها «شروط واملاءات» لا يمكن التعالي عليها وقول الرئيس بأن :«من اراد مخلصا ان يدعمنا عليه في المقام الاول وقبل أي دعم ان يحترمنا ويحترم اختياراتنا وتونس لا تقبل الدعم اذا كان دون احترام وخيرٌ لنا الاحترام بدون عون ظاهره خير وباطنه مزيد من التبعية والتفقير…»
هذه المقاربة لها وقع خاص مجتمعيا وهي مقاربة «عاطفية» ان صحّ الاستعمال تخاطب الجماهير بلغة من خارج «القاموسين الاقتصادي والمالي» ومن خارج «الاحتياجات الوطنية المستعجلة» وإنما هي لغة بحمولة «عاطفية واخلاقية» ثقيلة تقدّم «الآخر» على أنه غير مرغوب فيه «بيننا» كونه لا يحترمنا أو هو «يمنحنا الدعم» ولا يحترم اختياراتنا.
هذا خطاب «مشحون عاطفيا» يخاطب «عقل الجماهير» ويجد مقبولية لديها لكنه وفي المقابل لا يجد صدى لدى «الآخرين» أي كل الاطراف الدولية المالية والتي تضع «املاءاتها» كشروط للدعم المالي.
وهنا نجد أنفسنا أمام خيارين لا ثالث لهما.. إمّا القبول بهذه الشروط مع التفاوض للتخفيف من حدّتها وبالتالي الحصول على الدعم المطلوب لانقاذ الاقتصاد الوطني ولتنفيذ الاصلاحات الوطنية بشروط المانحين… وإمّا رفض هذه الشروط وعدم الذهاب ـ أصلا ـ الى الاطراف الدولية المانحة وبالتالي التعويل على الذات لتلبية احتياجات المواطنين ولانقاذ الاقتصاد الوطني ولاجراء اصلاحات هيكلية يمكن تحويلها الى أمر واقع..
والخيار الثاني صعب وباهظ على الدولة ومؤسساتها وعلى التونسيين ـ أيضا ـ باعتبار حمولته التي ستثقل كاهلهم وقد تحولهم الى متسولين لارزاقهم بحيث تصبح الحياة مستحيلة دون تدافع اجتماعي نلاحظ ـ اليوم ـ بعض ملامحه في ندرة المواد الغذائية الاساسية وفي الطوابير التي ازدادت تمددا أمام المخابز…
والسؤال ـ هنا ـ ما العمل أمام استعصاء الاطراف الدولية المانحة وشروطها المجحفة مقابل مقاربة وطنية وضعها الرئيس قيس سعيد ورفع من خلالها كل «اللاءات» أمام «الدعم المشروط» والممهور باملاءات لا تحترم السيادة الوطنية ولا الارادة الشعبية…؟
في كل الاحوال لا يمكن لتونس ان تتحرك لوحدها ولا أن تعزل نفسها عن العالم برفضها كل أشكال الشراكات الدولية كما لا يمكنها لوحدها ان تغيّر «العالم الرأسمالي» بكل منظومته المتوحّشة ولا ان تقاوم «العقل الرأسمالي» الذي يدير «منتدى دافوس» والقول «بأنه لا يمكن لهذا المنتدى ان يستمر بنفس الفكر الذي حفّ بظهوره باعتبار ان الانسانية تتطلع الى مستقبل أكثر عدلا ولم تعد ترضى بتقسيم عالمي للعمل يقوم على تقسيم العالم بين «أثرياء وفقراء»…
هذا القول (وهو للرئيس قيس سعيد) يمكن القبول به وهو يجد مقبولية كبرى لدى شعوب العالم النامي وهو ـ في النوايا ـ إنما يدعو الى تقليص الفجوة بين الشمال والجنوب لكنه حديث سيصطدم ـ في الاخير ـ بمنظومة صلبة لطالما تعرضت لازمات معقدة لكنها صمدت واستمرت وهي ما تزال قادرة على التوسع والنمو وعلى ادارة العالم ونقصد هنا منظومة الرأسمالية الحديثة المتماهية مع قوى اقتصادية كبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية وبالتالي فإن التعويل على انهيار هذه المنظومة لاعادة بناء عالم أكثر عدلا هو من قبيل الاحلام الشبيهة «بأحلام الشعراء» لاسباب عديدة منها ان النظام الرأسمالي هو النظام الممسك اليوم بكل أسباب الحداثة التكنولوجية والرقمية والصناعية وهو الذي يسيطر على «ماكينة» انتاجها وتسويقها وهو الذي يوزعها على مستهلكيها في العالم ووفق شروطه لا وفق شروط «العالم النامي» (المستهلك) والذي يتغذى من هذه المنظومة الرأسمالية التي ازدادت استقواءً من تناقضاتها الداخلية… منظومة لا يوجد في قاموسها مصطلحات من مثل «الاحترام» و«الاخلاق» وغيرها من القيم النبيلة وقاموسها لا يعترف بغير «المصلحة المتبادلة» وبشروط النظام الاقوى…!!
«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!
من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…