وداعا محمد الغزي : كثيرٌ هذا القليل الذي أخذتَ، القليل الذي تركتَ
غيّب الموت يوم الخميس 18 جانفي 2024 الشاعر محمد الغزي، “الوَلِهُ القديمُ”، المُندلع “في الحياة فجاءة مثل اندلاع الماء والأعشاب “، المنتظر” لفاجئة قد مضى قبله العاشقون إليها”.
سكت قلبه وغادر مليئا بالشعر والحياة والعشق. “ تغشّى مدنا مستترة” مصحوبا بـ” طائر السعد”. إنّه من جنس الكائنات التي تعبر الأرض والوجود برقّة العاشق وخطى السالك الباحث عن طريقه إلى القيروان، القيروان كناية عن الرحم الأولى والينبوع الأول.
متعفّفا، وديعا وهادئا طلع على المشهد الشعري التونسي والعربي، بلغة رقراقة صافية عذبة، كأنّه يغرف من نبع، وبعوالم بكر جديدة تماما، كأنّه لمس ضوءا خافيا آخرا ممّا ترك الأوائل الذين صنعوا من مهجتهم مدينة أولى هي الآن عجوز أثقلتها أحمال التاريخ وكدماته وجراحه ومكره. ومن خيوط الضوء تلك، من وشائج مُلغزة وخافية تشدّنا إلى الروح وتجعلنا ندرك أنّ “ الضلالة هي الهُدى”، من تفاصيل وأشياء ينسج قصائده المدهشة، ليجعلنا نطلّ معه على عين اليقين، عين الشعر، عين الروح.
لا جريمة في شعره. لا خطايا أو مزاج فاسد يتقيّأ رعبه من العالم، كما يفعل الكثير من الشعراء التائهين. مع الغزّي نحن في بستان، في حانة، في ينابيع، في مسالك. ثمة مصابيح، سمك جميل، حنّاء في اليدين، صندل في المجامر المتقدّة، نجمة ليل مرتجفة، فلكٌ مثقلة ، صحار تتعاوى في لياليها الذئابُ، قوارب مثقلة بالطيب، عربات السحاب، عربات تجرّها الوعولُ، جرار مليئة، ضوء آخر يلوح، مدن طفولة مستترة، قوافل من عشاق يغشون مدنا مستترة. نحن في الامتلاء واليقين والنور، لا في الفراغ والشروخ والكدمات.
يخرج قارئ شعره أكثر وداعة ولطافة محمّلا بطفولة الأشياء، ببكارة المعنى وسعادة الحفن بيدين غير ملهوفتين من نبع صاف، مثل قلب الشاعر الذي مشى على الأرض هونا بـ”قلب شحاذ مبتهج”، رحيما بنفسه وبنا، لأنّه اختار أن “ يمشي في الأسواق” وأن يخلط ظلّه مع ظلال شعراء، “ هُلاكٌ يبحثون عن غنيمة”، “ أنظارهم رجْسُ”، “ ما بين مُنخدعٍ وخَدوعٍ أتوا”، لا شيء يجمعه بنبضهم. كان بقدرته أن يتعالى ولكنّه اختار أن يقسم معهم حكمة قلبه بسماحة من لا يرجو جزاء أو شكورا، “ وحده أدرك وهم حدسوا”، “ أبصر فوق ما تبصر الروح”.
يعرف أنّ رهان الشعر صعب ولكن في قدرته أن ينصت إلى جرس الكلمات وأن يتخيّر النبض اللائق بجملته. ويعرف أن الرهان الأكبر والأرفع هو أن يشتغل على طينة روحه، ففيها جوهر جميل أصيل، عليه أن يخلّصه من أمشاجه وخلائطه.
رحيما يشفق على الشعراء من أحابيلهم وعلى العشّاق من عتههم المُضلّ. يبحث عن جلاّس وعن عشّاق سلكوا قبله الطريق إلى القيروان ولم يبلغوها، لأنّ القيروان بوصفها استعارة عن الروح تبعد وتتّسع بمقدار ما تتّسع الطريق وتتّسع الرؤية.
كيف يرشدهم إلى النبع فلا تعكّره خطاهم من لهفتهم. ربما لم يجد من مناص سوى أن يخبّأ عنهم تحت أثوابه “ جرّة الخالق”، موهما أنّه على عطش مثلهم. وبسخاء، دون إظهار منّ أو سوء، كان يسقي نداماه في “حانة الشعر” من أقداحه، عارفا أنّه يليق بهم الذهول، لا الرؤية الحقّة، فقليلٌ من يقدر على دفع أكلافها.
الذهول، الذهول أمام “ صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة”. الذهول، الذهول عن أنفسهم التي مسّها الضرُّ من نفسها، علّهم يبرؤون.
أيّ قيروان هذه التي تهب شاعرا مثل محمد الغزّي؟ أيّ تونس هذه التي ستخلو منه ؟ أيُّ نحن من سيقرؤه،” نحنُ الغريبةُ أعيادهم والذين إذا جاءهم نبأ الموت لاذوا ببيت جديد” ؟
كان وسيظلّ جامع خلاصات عطور، تفوح من الكلمات وتبقى فيها. لا يتفرّق شذاها ولا يتلاشى. يتسرّب بلطف ويتّصل بغيبٍ، الغيب الجليل الذي ورد منه.
وداعا محمد. ها أنت تموت “في وحدتك الأولى كما العيرُ تموت. “ الموت مات ولم يظفر بمن عشقوا”. بريتَ من عظمك مزمارك، درأت الموتَ بالقول، وستبقى “ وحيدا مع الواحد”،” أعدت إلى الأرض غرابتها الأولى”، ولقد” سقاك ربك كلّ هذا الشراب”، أنت “ الخافقُ المشتاقُ”، كنت “ في حانة الله الشاربَ الساقي” ، الزخرف التونسي على باب الأبديّة، ف” ماذا تكون الأرضُ بعد فراقك” ؟
في مكتبة «الصحافة اليوم»: كتاب tunisiables نبش في أحوال التونسي وتقلباته لشكري الباصومي : حياتنا فقيرة قيميّا وحضاريّا وثقافيّا
في الصفحة 11 من كتابه “ tunisiables نبش في أحوال التونسي وتقلّباته” الصادر حديثا عن دار …