2024-01-18

الأزمة القِيَمِيّة في المجتمع تطال «النخبة» : الجريمة لم تعد حكرا على «العامّة».. !

تداولت وسائل الإعلام خلال الأيام القليلة الماضية أخبارا غير سارة عن أعمال عنف وجرائم تكاثرت في مجتمعنا واللافت في تفاصيل الوقائع أن المورّطين فيها ليسوا من «عامّة الناس» كما يقال أي من الفقراء مثلا أو العاطلين عن العمل أو الأمّيين أو سكان المناطق المهمّشة وحتى أصحاب السوابق فقط، وإنما «نخب» وأناس ينتمون لقطاعات مهنية حساسة يفترض الحد الأدنى فيها ألا تحدث فيها مثل هذه الانفلاتات والانحرافات.
في واقعة أولى، كشفت إذاعة موزاييك أف أم الخاصة أول أمس الثلاثاء 16 جانفي 2024 أن قاضي التحقيق بالمحكمة الابتدائية بتونس أصدر بطاقتي إيداع بالسجن في حق محامية وسائق أجرة وذلك من اجل تهم تتعلق بالانخراط في شبكة لترويج المخدرات إثر حجز أكثر من ثلاثة كيلوغرامات من القنب الهندي بحوزتهما.

وأخطر ما في الأمر أنه وفق المعلومات الأولية التي رشحت عن الأبحاث الأمنية، فإن ترويج المخدرات يتم للأسف بين الأوساط المدرسية وسط العاصمة..
واقعه ثانية لا تقل خطورة وغرابة انتهت بإذن النيابة العمومية بالعاصمة، بالاحتفاظ بثلاثة أشخاص تم مسك حوالي 5000 قرص مخدر مختلفة الأنواع لديهم ومن بينهم طبيب بالصحة العمومية.. !
وقبل أشهر أيضا، وهذه المرة في عاصمة الجنوب صفاقس، تم إيقاف قاض وبحوزته مبلغ كبير من العملة الصعبة وكمية من الذهب، وقبله تمت أيضا محاكمة قاضية كان بحوزتها مبلغ مالي من العملة الصعبة قدره مليون ونصف مليون دينار اعترفت آنذاك بتهريبه إلى بن قردان.
في نفس الفترة تم إيقاف ديواني بشبهة تعمّد تسليم عدد من شهائد «رفع اليد» تتعلق بسيارات أجنبية قصد إدراجها بالأسطول البري التونسي وتغيير لوحاتها المنجمية بطريقة غير قانونية مقابل الحصول على مبالغ مالية متفاوتة.
ولا تقف الوقائع في هذه الأوساط عند هذا الحد فالأمثلة كثيرة وهي تمسّ كل القطاعات تقريبا وهي تكتسي في تقديرنا خطورة بالغة ولها وقع يتجاوز بكثير وقع الجرائم التي يقترفها «عامّة الناس» كما أسلفنا والذين قد تكون أوضاعهم الاجتماعية ومستوياتهم التعليمية والثقافية محدّدة ـ لا مبررّة ـ لما اقترفوه من التجاوزات والأخطاء والجرائم والجنح في حياتهم.

بلغة الأرقام، فإن آلافا من مقترفي الجنح والجرائم في تونس ينتمون وفق عديد الدراسات القانونية والاجتماعية للأوساط «الشعبية» وبينهم كثيرون من الذين يكابدون أوضاعا صعبة، وكانت تنشئتهم الاجتماعية غير متوازنة الأمر الذي أدى إلى جنوحهم للعنف بأشكاله المختلفة، اللفظي والمادي والذي يفضي في الحالتين وفي عديد المناسبات إلى القتل مع التنكيل وببشاعة بالضحية.
وقد رأينا أن كثيرا من جرائم القتل والعنف الشديد تمت لأسباب بسيطة وحتى تافهة، أحيانا لخلاف في جلسة خمرية أو حول تقاسم الإرث وأحيانا أخرى بسبب سرقة المنازل او السيارات أو الهواتف الجوالة في الطريق العام وفي وسائل النقل، دون أن ننسى التحرش والاغتصاب والعنف الأسري المتفشي والذي بلغ ذروته العام المنقضي بمقتل عشرات من النساء على أيادي أزواجهن وأفراد عائلاتهن.
ويمكن القول ان هذه الجرائم لها تداعيات أليمة تسيء للمجتمع وتستفزه وتبرز وهنه لكنها في النهاية تنحصر في إطار ضيق نسبيا وهو العائلة في اغلب الأحيان، أما الجرائم التي اشرنا إليها في البدء والتي تورطت فيها «نخب» فارتداداتها أكثر حدّة لأن الفعل صادر عن أناس يُفترض أنهم متعلمون وواعون وملتزمون فوق كل ذلك بأخلاقيات مهنهم، وفعلهم هذا الذي يظهر شجعهم وأنانيتهم ووحشيتهم يؤذي في المقابل جمهورا واسعا في المجتمع، جزء كبير منه هو ضحية بكل المقاييس القانونية باعتبار أن الأطفال في الأحياء الشعبية والراقية على حد سواء والتلاميذ في المدارس ليسوا رشّدا، والمقاييس الأخلاقية كذلك باعتبار أننا بإفساد الناشئة نضرب المجتمع في مقتل.

هي أزمة وعي وأزمة ثقافة وتربية تبدأ من الأسرة وتنتقل إلى الشارع وتمر إلى المدرسة والمعهد والجامعة لتستقر في مجتمع كبير تعصف به الأزمة المركبة الاقتصادية والاجتماعية والقيمية، الأمر الذي يوفر حاضنة مثالية لشتى أشكال العنف والجريمة.
ومرة أخرى يجب الانتباه إلى أن المقاربة التي لا مناص من اعتمادها في علاج هذه الظاهرة لا يمكن أن تكون مقاربة أمنية أو قضائية أي ردعية فقط فنحن بحاجة أكيدة إلى إصلاح تربوي جذري والى سياسة ثقافية تستوعب الطاقات الخلاقة الموجودة في المجتمع وتوفر البنية التحتية الضرورية لذلك مع توفير العيش الكريم أيضا حتى لا تصبح المخدرات والجريمة والعنف ملاذا للجميع «عامة» و«نخبا».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

في تفاعل بعض الوزراء مع نواب المجلسين : شيء من الواقعية وشيء من المبالغة أيضا..!

تتواصل تحت قبة البرلمان هذه الأيام الجلسات العامة المشتركة بين مجلس نواب الشعب والمجلس الو…