إلى متى يتواصل تردّي الخدمات الطبية المسداة إلى المواطن التونسي؟ ومتى سنتصدى للنزيف الكبير لهجرة الكفاءات الطبية النوعية؟ وهل الظرف الحالي يقتضي من السلطات العمومية تغيير السياسات الصحية؟ ولماذا لا يتم الاشتغال على جعل تونس وجهة «سياحية استشفائية» جاذبة لأكبر قدر من الجنسيات؟
هي أسئلة كثيرة تفرض راهنيتها من أهمية الملف الصحي ومن حتمية أن تكون الدولة راعية في هذا المجال بالذات الذي لا يمكن بأي حال من الأحوال التخلي عنه.
وتكمن أهمية طرح هذه الأسئلة أيضا من تنامي مكابدة التونسي في تلقي العلاج والتي فاقت طاقة احتمالهم وفق الشهادات التي نتابعها من حين الى آخر في التحقيقات الصحفية التي تبين أن التداوي أصبح معاناة حقيقية.
ومن الواضح أن وتيرة تذمر المواطنين من الصحة العمومية وظروف التداوي في المرفق العمومي بلغت ذروتها سواء في المستشفيات العريقة بالعاصمة والأقطاب الصحية الأخرى في المدن الكبرى أو في مراكز الاستشفاء المحلية والجهوية بداخل الجمهورية.
ويبدو هذا أكثر تجلّيا في مجال طب الاختصاص حيث أصبح وجود طبيب مختص أمرا يحتاج عناء كبيرا وما يزال الوضع يراوح مكانه خاصة بعد أن رفض الأطباء مبدأ إجبارية الالتحاق بالمناطق الداخلية في السنوات الأخيرة الماضية.
ويتزامن هذا مع النزيف الحاد الذي تعرفه تونس في هذا الخصوص مع تنامي ظاهرة هجرة الأطباء سواء من الشبان المتخرجين حديثا أو من الكفاءات النوعية من أصحاب الخبرة.
والأكيد أن هذه الظاهرة أضرّت كثيرا بمستوى الخدمات الطبية المقدمة للمواطن التونسي في المستشفيات العمومية.ومع مرور الوقت بات واضحا تأثير النقص في عدد الأطباء على الخدمات المسداة وعلى طول أمد المواعيد الطبية التي تمنحها المستشفيات العمومية للمرضى.
هذا دون أن ننسى طبعا مسألة ضعف الميزانية المخصصة لوزارة الصحة العمومية وهو ما يؤدي إلى غياب المرافق الأساسية والمستلزمات الطبية الضرورية لتأمين خدمات علاجية طبيعية وفي وقت معقول ومقبول. بالإضافة إلى عدم توفر مناخ ملائم لعمل الأطباء فظروف العمل صعبة وشاقة جدا خاصة مع ارتفاع منسوب العنف الذي تتم ممارسته على الطواقم الطبية وشبه الطبية خلال ممارستهم لعملهم من قبل مرافقي بعض المرضى وذويهم وقد تابعنا عديد الوقائع في هذا الخصوص.
وهو ما يحتّم حماية الأطباء وتوفير ظروف آمنة ومريحة لهم أثناء أداء مهمتهم النبيلة وحتى لا يضطرهم سوء الحال إلى المغادرة وهذه خسارة فادحة لتونس كإشعاع وللتونسيين كخدمات صحية.
فنحن نعلم أن من أبرز المجالات التي نتميز فيها تونسيا هو مجال الطب الذي راهنت عليه دولة الاستقلال منذ بناء كلية الطب ودعمها بالكفاءات العائدة من الخارج في تلك الظرفية والانخراط الحثيث في مقاومة الأمراض السارية والأوبئة والنجاح المطرد في هذا الخصوص. وكان لنا نخبة من الرموز الطبية في كل التخصصات والتي تحمل أغلب المستشفيات التونسية أسماءها اليوم وهذا مفخرة لنا كتونسيين وكبلد راهن على التعليم وعلى جودة الحياة بشكل عام عبر توفير أساسيات العيش الكريم للتونسيين.
والأكيد أن التغييرات التي عصفت بتونس سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا قد تركت آثارها على كل المجالات وفي مقدمتها مجال التعليم والصحة. وحتى لا نكون أسرى النظر إلى الخلف من المهم اليوم أن تقوم السلطة بمراجعات عميقة وجذرية في المجال الطبي فإلى متى مثلا تواصل الدولة الإنفاق بسخاء على تكوين نخب طبية مشهود لها بالكفاءة ثم تمنح «على طبق من فضة» لبعض البلدان الأوروبية وفي مقدمتها فرنسا التي كفت منذ فترة على التمويل السخي لدراسة الطب واكتفت باستغلال كفاءات الغير من بلدان على غرار تونس ورومانيا.
كما أن الرهانات الكبرى المطروحة اليوم هي جعل تونس قطبا طبيا بالاعتماد على كفاءاتها النوعية في تخصصات دقيقة على غرار طب القلب والعيون والتجميل والصحة الإنجابية وزراعة الأعضاء وغيرها من المجالات التي برع فيها التونسيون واثبتوا جدارتهم ليس إقليميا فقط بل عالميا أيضا. وهو ما سيكون أفضل استثمار يدر مداخيل مهمة على بلادنا ويؤكد إشعاعها في هذا المجال وسيكون بمثابة فرص للاستثمار في «المادة الشخمة» بعبارة الزعيم بورقيبة. خاصة وبلادنا تمضي في مسار التعويل على الذات في كافة مناحي الحياة.
مرفق القضاء حجر الأساس في بناء الدولة ومؤسساتها : ..والعدل أساس العمران..
هل نحتاج الى استحضار مقولة علاّمتنا الكبير عبد الرحمان بن خلدون: «العدل أساس العمران» للت…