مرّت ثلاثة عشر سنة على حدث 14 جانفي 2011 وهو ما قد يبدو عمرا طويلا بتقديرنا نحن كأفراد لكنه في عمر الأمم والشعوب لا  يكاد يكون سوى مجرد فاصل زمني لا يذكر فقد علّمنا التاريخ ان التحولات الكبرى ومن بينها الثورات والانتفاضات الشعبية تأخذ عقودا من الزمن ليستتب الأمر وتستقر المجتمعات في شكلها النهائي وتنفض عنها غبار كل الارتدادات التي حدثت.

ونحن اليوم نقف عند  ذكرى محطة مفصلية من تاريخ تونس المعاصرة وهي تلك اللحظة التي كان لها ما بعدها وشكلت منعطفا في حياة كل التونسيين بلا استثناء يحق لنا ان نقف ونسائل الأحداث، بل وان نقيّم حالنا وننظر بعمق في تفاصيل ما حدث وخاصة ما لم يحدث فلا يكفي ان نتوقف فحسب عند الاحلام المؤجلة وهذا مهم ولا يحق لنا فقد ان نتأسف على انتظاراتنا الشاهقة التي لم يتم اشباعها جراء الانحرافات التي حدثت وحسابات الحقل والبيدر.

ولكن الإنصاف يقتضي ان لا نسأل فقط ما الذي تحقق بل ان السؤال الجوهري في تقديرنا هو الآتي :

ما هي الانزلاقات التي تجنّبها التونسيون دولة ومجتمعا ؟ وما هي الأخطار التي وقع فيها غيرنا وتلافيناها بفضل خصائص كثيرة تميزنا عن  باقي المجتمعات التي عاشت مثلنا تلك الهزة ؟ وهل نجونا فعلا بعد هذه المرحلة من ارتدادات الزلزال الكبير الذي عشناه عشية 14 جانفي 2011 ؟

تمرّ اليوم ذكرى 14 جانفي التي خفت بريقها مع الأيام خاصة بعد ان أصبحت العطلة الرسمية يوم 17 ديسمبر تاريخ اندلاع أولى شرارة الانتفاضة الشعبية التونسية قبل ان تغير مآلها ولكن ليلة  سقوط النظام تظل مكتظة بالرموز مثقلة بالمعاني مهما اختلفت التأويلات بشأن ما حدث في كواليس المشهد التونسي وتقاطعاته مع الخارج في ذلك اليوم المشهود.

وقد دأبنا في كل سنة تقريبا على أن نعدّد الخيبات ونحن نحاول استقراء حصاد هذه السنوات لكن علينا اليوم ان نقول وبمنتهى العنفوان أنّنا تجنبنا مآلات تراجيدية وان هذا يحتسب في ميزان فضائلنا أيضا.

فنحن نتذكر هذا اليوم تلك الأشباح التي اقضّت مضاجعنا عندما استفقنا على ملامح بلد لا يشبهنا عندما حكمت الترويكا برؤوس ثلاث وبعقل اخواني وكان التهديد الأكبر هو الردة على كل مكتسبات المشروع التحديثي الذي دشنه أبناء تونس البررة مع اشراقة الاستقلال بإرادة سياسية شجاعة من الزعيم الحبيب بورقيبة.

وكان التهديد الأكبر لمكاسب المرأة ولبرنامج التعليم ولذلك تعالت الأصوات لنخب سياسية وثقافية مستنيرة معلنة وقوفها ضد أي محاولة لتغيير نمط المجتمع التونسي الحداثي المنفتح.

كان ذلك التحدي الكبير الذي نعلن اليوم بكل نخوة اننا انتصرنا فيه بفضل وقفة نساء تونس ونخبها فتم كشف المشروع الاخواني ومحاربة أوكار التعليم العشوائي الموازي لتدمير المدرسة التونسية والتصدي بشراسة للردة على مكاسب المرأة بعد ان انتشرت ظاهرة الزواج العرفي في المجتمع خاصة لدى الطلبة الحاملين لفكر متحجر  في بعض الجامعات ولدى بعض الفئات الاجتماعية الهشة ثقافيا وماديا.

وانطلقت المعركة من جامعة منوبة عندما تصدت الطالبة خولة الرشيدي لأحد الغلاة بكل شجاعة ومنعته من وضع راية العقاب مكان العلم التونسي.

رمزيا كانت تلك أولى المعارك التي انتصر فيها التنوير على الظلامية.

ثم كانت الصراعات كبيرة في الميادين والساحات وفي المنابر الإعلامية وخاصة الصحافة المكتوبة والاصدارات الفكرية والندوات العلمية الى جانب أنشطة بعض التيارات السياسية الحداثية وكل الهدف هو تقويض اركان الفكر المتطرف الذي وجد لها الملاذ في وصول حركة النهضة الى السلطة وتمكنها من مفاصل الدولة ومحاولاتها وضع الأسس لمشروع التمكين الإخواني الذي كان هدفا وغاية منذ ان اعلن احد القياديين بأن تونس انخرطت في مرحلة «الخلافة السادسة» والتي قيل انها ستستمر على امتداد نصف قرن.

ولعل اعتصام المصير كان من المحطات الفارقة التي قلّمت أظافر الإسلام السياسي في تونس وجعلته ينحني للعاصفة ويحاول ان يتتونس ولو شكليا لتغيير جلده عبر فصل الدعوي عن الديني وعبر الخروج المؤقت وقتها من السلطة.

ولكن الريح لم تجر بما تشتهي سفن التونسيين فقد قادت بعض الأخطاء السياسية وتحديدا التوافق اللامنطقي الى عودة الإسلام السياسي الى السلطة وخوضه معارك معلنة وسرية من اجل التغلغل في مفاصل الدولة والسيطرة عليها حتى جاءت لحظة 25 جويلية 2021 لتضع نقطة النهاية لوجود الاسلام السياسي في السلطة وهو ما استبشر به غالبية التونسيين واعتبروه منجزا كبيرا وبداية مرحلة جديدة تقطع فيها تونس مع حكم الإسلاميين الذين انحسر دورهم بشكل تدريجي في  منطقتنا العربية عموما وتراجعت نسبة الدعم لهم خارجيا.

وفي سياق متصل يمكن التأكيد على بلادنا نجت بأعجوبة من حمام دم كان يمكن ان يأتي على الأخضر واليابس ففي ظروف الانتقال السياسي الصعب ومع ذروة الصراعات كنا قاب قوسين او ادنى من الانزلاق في اتون حرب أهلية. غير ان خصائص الفكر التونسي القائم على التفاوض والحوار قد جنّبنا هذا المصير القاتم وقاد الجميع الى طاولة النقاش في ما عرف بالحوار الوطني الذي حتى وان لم نحقق به مكاسب اقتصادية او تغيير في أحوال التونسي فإننا تلافينا الكارثة وهذا أمر بالغ الأهمية.

فقد حافظ المسار التونسي في كل المراحل على الطابع السلبي فحتى الانتفاضة الشعبية التي تحولت في بلدان أخرى الى معارك مسلحة وتمت عسكرتها بل تم التدخل الأجنبي السافر عسكريا فيها كانت بمثابة ولادة من الخاصرة في تونس وتجنبنا المآل المشؤوم.

هذا لا يعني أننا لم ندفع الثمن فقد كانت الحرب ضد الإرهاب معركة كسر عظام بامتياز  فقد كبّدنا التطرف العنيف شهداء كثر سواء من أبناء القوات المسلحة في جيشنا وأمننا الوطني او من المدنيين البسطاء او من السياسيين وتحديدا الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي .

وقد خضنا هذه المعركة الضارية في البداية بجهاز أمني  كان يعاني في البداية من الارتباك الى جانب سعي  بعض الأطراف السياسية الى السيطرة عليه ولكن ورغم كل ذلك نجحنا في النجاة من تغلغل طيور الظلام في نسيجنا المجتمعي وأثبتت قواتنا الأمنية والعسكرية جاهزيتها وبسالتها في مواجهة كل التهديدات والأخطار وبرهن المجتمع التونسي على رفضه لكل أشكال التطرف العنيف وغياب الحاضنة الشعبية لهذا الإرهاب,. ولعل ذروة تجلي ذلك كانت في ملحمة بنقردان التي كان فيها المواطنون ملتفّين حول امنهم وجيشهم في صور نادرة الحدوث وحطموا أي إمكانية ليستوطن خفافيش الظلام أرض تونس.

واليوم ونحن ننظر الى كل هذه الوقائع تبدو الرحلة التي قطعناها شائكة وبالغة التعقيد لكننا تجاوزنا كل هذه الصعاب وتلافينا الوقوع في الفخاخ التي نصبت لنا بفعل القوى المترصدة بتونس داخليا وخارجيا. وهذا ما يجعلنا ننظر ليس بعين التفاؤل الساذج للمستقبل وانما بطموح من ينتمي الى ثقافة إرادة الحياة والقدرة على التجاوز والاستلهام من أسطورة طائر الفينيق الذي ينهض من رماده ماردا قويا جبارا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

التشغيل في تونس : «أم المعارك» التي لا بدّ من خوضها

لا شك ان احد الرهانات المطروحة على تونس اليوم هو التشغيل بكل ما يعنيه هذا الملف من تعقيد  …