من المفترض أن يترافقا لبناء تونس الجديدة : الإعلام والسلطة أو الغضب المتبادل..!
كلّما اقتربنا من موضوع الاعلام وما يشهده اليوم من «حراك» ومن نقاش متشنج وحاد الا وابتعدنا قليلا حتى لا نطأ «لغما» من الألغام المزروعة على «أرض القطاع» فيتفجر في وجوهنا فنهلك…
لا نتحدث ـ هنا ـ عن «خوف شخصي» من عقوبات على معنى المرسوم 54 أو المجلة الجزائية أو مجلة الاتصالات التي يقاضى بها حاليا الصحافيون على خلفية رأي أو «كلمة» وإنما نتحدث عن أقفال شديدة وثقيلة تحاصر الاعلام بكل محامله وقد حوّلته الى «أرض زلقة» لا يمكن الاطمئنان اليها خاصة في حضرة المرسوم عدد 54 والذي جاءت فصوله كالاقفال على الألسن والافواه ما يدركه المشرّع عميقا والذي لم يكتف بصياغة فصول المرسوم بمعانٍ فضفاضة بل هو تركها مفتوحة على مصراعيها حتى يسهل تأويلها على المقاس المطلوب ونشير ـ هنا ـ خاصة الى الفصل 24 من المرسوم عدد 54 والذي يمنح السلطات القضائية والامنية صلاحيات شاسعة لتأويل النص لا من داخل النصّ فحسب وإنما يمكن تأويله مزاجيا ـ أيضا ـ وبما تمليه سياقات الإحالة…
لقد تحدثنا في ورقة سابقة عن «تعسفية» المرسوم 54 وقلنا بأنه مرسوم معيب ومهين لدولة الثورة ولتونس الجديدة وبأنه لا يليق بدولة الرئيس قيس سعيد رجل الدستور والقانون والذي أكد ويؤكد في كل أحاديثه بأنه ضدّ كل القوانين التعسفية وأنه مع الحق مطلقا وضدّ كل ممارسة استبدادية… والمرسوم 54 هو ـ في الواقع ـ وبما جاء عليه من اغلاق مفتوح على كل عناوين العسف…
نحن لم نفهم الى حدّ الآن أسباب هذا التوتر الذي يسم علاقة السلطة بالاعلام… لم نفهم أسباب هذا الغضب المتبادل بين طرفين من المفترض ان يترافقا في بناء تونس الجديدة… لم نفهم هذا التوتر الذي تحوّل الى عدوانية مبالغ فيها أحيانا… فما الذي أفسد هذه العلاقة والتي من المفترض ان تُبنى بمسؤولية من الطرفين… المال والسياسة والايديولوجيا والانتماء الحزبي والولاءات الانتهارية هي بعض من بين فيض المظاهر التي ساهمت في ارباك المشهد الاعلامي وأفسدته على امتداد العقد الأخير وقد لعبت أحزاب الحكم الدور الأكبر في تحويل هذا الاعلام الى «لوبيات» والى «أبواق دعاية» لهذا الطرف أو ذاك..فقد صنعت حركة النهضة إعلامها واشترت بعض «المرتزقة» من هنا ومن هناك وكذلك فعل نداء تونس بعد ما خلفها في الحكم (شكليا)… ألم تكن لرئيس حكومة «النداء ـ النهضة» السيد يوسف الشاهد أجنحة ممتدة في كل المؤسسات الاعلامية العمومية والخاصة…؟ ألم يكن يغدق المال والهدايا والخطط الوظيفية عشوائيا لجماعته الموزّعين على المنابر بصفات مختلفة…؟ زائد ظهور «وظائف جديدة» تم استحداثها تحت عنوان «محلل سياسي» (كرونيكور) وهؤلاء كانوا ـ بالفعل ـ أصواتا نذرت نفسها لولاءات مختلفة وأغلبها بين «النداء أو النهضة الاخوانية»… وقد عاثوا فسادا على المنابر بما حول الاعلام التلفزيوني ـ خاصة ـ الى منابر للقيل والقال حيث تهتك الاعراض إلى أن تعفّن «المشهد الاعلامي» فاستقال منه من استقال من الشرفاء وتركوا الساحة للمتكلّمين الجدد وقد وفدوا علىالمشهد من كل «فجّ عميق» دون ان تكون لهم هويّة مهنية حقيقية بل تم فرضهم وكانوا وراء هذا الخراب الذي أفسد قطاع الاعلام بحيث تقدمت فيه «النطيحة والعرجاء» وهجره أهله من أبناء المهنة ممّن لم تمسّهم شبهة الارتزاق أو الانتماء الانتهازي لولاءات حزبية ومالية اشترت ـ بالفعل ـ «أسماء ومنابر» وبعضهم ما تزال وجوههم ممدودة في التلفزات…
لقد كان «طوفان» مسخ المشهد الاعلامي شديدا وقويا وممنهجا وازداد انفلاتا بعد عجز الهيئات التعديلية التي لم يكن لديها ـ في العمق ـ مشروع انقاذ بل تواطأت هي أيضا مع هذا المسخ وانخرطت فيه وكرّسته واسألوا «الهايكا» كيف كانت التعيينات على رأس التلفزات والاذاعات العمومية تمنح ويرتب لها في النزل الفاخرة… ولم يكن لمجلس الصحافة أي دور حقيقي بل كان مجرد هيكل جمعياتي بلا محتوى ونفس الشيء بالنسبة لنقابة الصحافيين في سنواتها الاخيرة حيث انخرطت في السياسي وغفلت عن المهني وتركته مفتوحا لكل من هبّ على القطاع ولكل من دبّ بجواره… وبما أن الانفلات على امتداد العقد الأخير كان عاما وشاملا وبما أن المال الفاسد قد اشترى كل الذمم ما عدا من رحم ربّك فقد التبس الحق بالباطل وأصبح «إعلام البوز» وإعلام الفضيحة» متصدرا التلفزات والمنابر واختلط الاعلاميون «بأشباه» جاؤوا من قطاعات الفنّ والكوميديا وتم تسليم المنابر الاذاعية والتلفزية خاصة لعدد من «المهرّجين» بحيث لم تعد تفرق بين الصحفي المحترف والمهرّج المحترف فكلاهما يتقدّم الى الناس كمحلل سياسي…؟
وهكذا اكتظ المشهد بالغموض وفي المقابل لم تنجح الهياكل المهنية وخاصة نقابة الصحفيين في تصفية «الدم الفاسد» الذي تسرّب لجسد قطاع مريض أنهكته «الثورة» التي كانت منحته مساحات شاسعة من الحريات وظفتها المنابر الاعلامية بإسناد من المال الفاسد في معارك السلطة خلال العقد الأخير الذي سيطرت عليه الحركة الاخوانية وامتدّت الى ان داهمها الرئيس قيس سعيد في تلك الليلة الليلاء من جويلية 2021…
عشرية ونيف لم يتمكن خلالها الاعلام التونسي الى الآن من اعادة ترتيب بيته الداخلي ولم تتمكن هياكله من طرح مشروع لتعديل وتنظيم قطاع مستباح بامكان أي كان أن ينتحل صفة الانتماء اليه…
لقد وجدت دولة الرئيس نفسها أمام قطاع منفلت زائد فوضى كبرى على المنابر التلفزيونية لم تتردد في هتك اعراض الناس (أفرادا ومؤسسات) ولا تتردد في التحريض على الدولة وعلى مؤسساتها وفي استباحة عناوينها السيادية فقررت ـ أي دولة الرئيس ـ «محاصرة» القطاع برّمته بالمرسوم المشهود عدد 54 والذي وصفناه «بالقفل على الالسن والافواه» وهو مرسوم ثقيل على الحريات الصحفية يمكن تشغيله في كل السياقات وعلى كل «الجمل الفعلية» وتأويلها تحت الطلب بما يعني وفي المحصلة «اقامة قد تطول أو تقصر» بحسب «نتيجة التأويل» فهي المحدّد لمدة الايقاف إن كانت على معنى المرسوم 54 أو وفق المجلة الجزائية أو مجلة الاتصالات…
لقد اختار المشرع الحلّ الاسهل «لإصلاح القطاع» فضيّق عليه من حيث أراد إصلاحه بالمرسوم 54 وغفل عن المرسومين المنظمين للمهنة ونتحدث ـ هنا ـ عن المرسومين 115 و116 بحيث ينصّ الفصل 13 من المرسوم عدد 115 لسنة 2011 بان شروط المساءلة الجزائية للصحفي تنتفي اذا ما كان الرأي المعبّر عنه لم يخرق اخلاقيات المهنة وبالتالي فإن تتبع الصحفي في مثل هذه الاحوال أي خارج المرسوم 115 يعتبر خرقا للقانون…
لم يعد ممكنا ـ في الواقع ـ استمرار هذه العلاقة الموترة بين السلطة والاعلام وبينهما تونس المتعبة وهي تحتاج الى عقل سياسي يمتاز بالحكمة والتعقل والى اعلام حرّ ومسؤول يرافق الدولة وسياساتها العمومية بعقلانية وعبر خطاب اعلامي نقدي حتى وإن كان قاسيا أو انفلت للحظة بفعل الحماسة فإنه في الأخير لن يكون سببا في سلب حرية الصحفي وفي الزج به في سجون الايقاف…
هناك مسؤولية مشتركة ولا شك مع التأكيد ـ هنا ـ على ان قضايا الاعلام لا تحلّ في المحاكم وعبر المجلة الجزائية أو مجلة الاتصالات أو المرسوم عدد 54 وانما عبر المرسومين 115 و116 أي بقوانين المهنة وبشروطها… وآن الأوان على ما أعتقد للتفكير جديّا في بعث مؤسسة مرجعية تكون في شكل مجلس أعلى ينظم المهنة ويعيد ترتيب بيتها الذي خرب وقد استباحته النطيحة والعرجاء…
«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!
من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…