في الذكرى 39 لـ«انتفاضة الخبز» : يوم قال الشعب حذار من جوعي ومن غضبي!
في مثل هذه الأيام، وتحديدا بين نهاية سنتي 1983 و 1984 خطّ التونسيون بدمائهم واحدة من ملاحمهم الكثيرة على درب الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية فيما صار يُعرف بعدها بـ«انتفاضة الخبز» واختير لها تاريخ 3 جانفي 1984، وهو يوم الذروة الذي عمّت فيه الاحتجاجات ربوع الوطن وسقط فيه عديد الشهداء والجرحى الى جانب حملة واسعة من الاعتقالات التي تلتها محاكمات جائرة.
وتعود الأسباب المباشرة لهذه الانتفاضة الى إقدام حكومة محمد المزالي آنذاك على تخفيض الدعم على منتجات الحبوب فقفز سعر الخبز من 80 الى 170 مليم.
أما الأسباب غير المباشرة فقد كانت خضوع السلطة لإملاءات صندوق النقد الدولي علاوة على تعفّن المناخ الاجتماعي وتعثّر الحياة السياسية وهيمنة حزب الدستور الحاكم على مفاصل الدولة والحياة العامة في البلاد إلى جانب التجاذبات حول الحكم وسط الحاشية في إطار معركة خلافة الرئيس الحبيب بورقيبة.
شريط الأحداث انطلق كما يقال يوم 29 ديسمبر 1983 حين تظاهر أبناء دوز بالجنوب التونسي بمناسبة السوق الأسبوعية وانتشرت المظاهرات من الغد في قبلي وسوق الأحد وبمجرد دخول الزيادة في الأسعار حيّز النفاذ مطلع العام الجديد حتى سرت الاحتجاجات كالنار في الهشيم وعمّت مناطق الشمال والوسط وبقية الجنوب بطبيعة الحال لتصل إلى العاصمة الأمر الذي استوجب تدخل الجيش في العديد من المناطق وإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين.
ولم تمنع إجراءات قمع التونسيين من مواصلة التظاهر يوم 4 جانفي رغم العطلة القسرية التي منحت للجامعات والمعاهد والمدارس والشروع في حملات اعتقال واسعة، فاضطر الحبيب بورقيبة يوم 6 جانفي إلى التراجع عن الزيادة في الأسعار وأعلن ذلك في خطاب مباشر للشعب، ويحتفظ التونسيون بعبارته الشهيرة «نرجعو كيما كنّا»، وبالفعل عاد التونسيون كما كانوا وخفت ما اعتبره البعض مدّا ثوريا وانتفاضة قد تزعزع عرش النظام.
موقف الرئيس بورقيبة قابله الشعب بالترحاب وخرجت مسيرات تهلُل باسمه «بورقيبة يا حنين الخبزة رجعت بـ 80»، وبهذا الشكل رمّم النظام صورته إلى حين، واستغلت الآلة الدعائية والأمنية والقضائية الظرف لتشويه الانتفاضة ومعاقبة المشاركين فيها، وتبيّن بعد سنوات أن التسرّع في بعض الإيقافات كان منافيا للقانون والحق علاوة على ان الاستعمال المفرط للرصاص الحي لم يكن له ما يبرره.
وللأسف لم تسمح تجربة العدالة الانتقالية بعد ملحمة 14 جانفي 2011 غير المكتملة في إنصاف هذه الانتفاضة كبقية الملفات، ومع ذلك ما تزال هذه الانتفاضة وما يزال «الخبز» تحديدا يحظى برمزية لا حدود لها في مخيلة وفي وجدان وعقول التونسيين فهو ليس مجرد قوت بقدر ما هو تعبير عن حاجة إنسانية تختزل الكرامة والحق والحرية وما يزال شهداء هذه الانتفاضة رموزا يستحضر ذكراهم ويتغنى بأرواحهم الأوفياء ولذلك يتم سنويا إحياء ذكرى استشهاد الفاضل ساسي على سبيل المثال وسط العاصمة.
في علاقة بالسلطة، صحيح ان نظام بورقيبة تنفّس الصعداء بعد الإجهاز على انتفاضة الخبز واستيعاب غضب الشارع لكن الاستقرار لن يعمّر طويلا فقد زاد الاحتقان الاجتماعي سنة 1985 وجرت معركة كسر عظام بين النظام والاتحاد العام التونسي للشغل، وفي غضون ذلك حصل التغيير من داخل المنظومة واستولى الرجل القوي فيها وهو زين العابدين بن علي وهو أحد المخلصين لبورقيبة في العلن، على الحكم في 1987..
هل استخلص النظام دروس انتفاضة الخبز؟ بالتأكيد لا، ولو فعل ذلك لما كان مآله السقوط المدوي بين سنتي 2010 و 2011.
لقد روّج «النظام السابق» لحقوق الإنسان وصاغ العديد من التشريعات في هذا المجال بما في ذلك إدخال تعديلات على الدستور وإحداث المؤسسات ذات الصلة، لكن الفجوة كانت كبيرة بين الشعار والممارسة وبين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والحقوق السياسية والمدنية.
صحيح ان طيفا واسعا من التونسيين في ما كان يعرف بالطبقة الوسطى كان قادرا على توفير الحد الضروري من العيش الكريم لكن انغلاق النظام وتكميم الأفواه والدور السلبي الذي لعبته العائلة والحاشية شرّع الباب للانتفاضة من جديد.
واللافت أن ما حصل قبل أربعة عقود حين انطلقت الاحتجاجات في الأيام الأخيرة من ديسمبر وتم احتواء الانتفاضة والسيطرة عليها في 3 جانفي، تكررّ بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 وكأنّ قدر التونسيين أن تُسرق منهم أحلامهم وثوراتهم وانتفاضاتهم مثل ما تُسرق جيوبهم فما صحّة هذه المقاربة وما هي الطريقة المثلى للخروج من مأزقها ؟.
في تفاعل بعض الوزراء مع نواب المجلسين : شيء من الواقعية وشيء من المبالغة أيضا..!
تتواصل تحت قبة البرلمان هذه الأيام الجلسات العامة المشتركة بين مجلس نواب الشعب والمجلس الو…