«بيضاء» اقتصاديا، رمادية سياسيا ووردية ديبلوماسيا.. : لا مجال للبقاء في أسر سنة 2023
يودّع التونسيون سنة 2023 ويستقبلون كباقي شعوب العالم سنة 2024 بشيء من الأمل وكثير من القلق والخوف لأن حصاد السنة المنتهية لم يكن على ما يرام وهذه المفارقة ليست جديدة فهي خبزنا اليومي منذ ملحمة 14 جانفي 2011 غير المكتملة وكل عام ونحن نمنّي النفس بأن يكون القادم أفضل وهذا في حد ذاته ايجابي للغاية في حياة الشعوب والأمم بشكل عام وفي حياة تونس التي تظل التجربة الإنسانية الأقدر والأجدر على النجاح بشروط ليست مستحيلة.
ولعل ما خفّف على التونسيين وعلى سكان المعمورة صراحة هول البؤس، هذه الملاحم الأسطورية التي يرسمها شعب الجبارين، شعب فلسطين على أرض فلسطين التاريخية منذ انطلاق ملحمة طوفان الأقصى في 7 اكتوبر من غزّة العزّة، وهو ما فرض على الجميع تعديل البوصلة واعتبار أن الحق الفلسطيني أولوية الأولويات ومن المعيب أن يبحث المرء عن الرفاه وعن النجاة بالنفس في الوقت الذي يدفع فيه أشبال فلسطين حياتهم فداء للأرض والعرض.
والحق الفلسطيني لم يوحّد شعب فلسطين فقط لكنه وحّدنا في تونس كالعادة وكان التناغم بين الموقفين الرسمي والشعبي ايجابيا إلى أبعد الحدود بخلاف الموقف من الشأن الداخلي والأزمة المركّبة التي نتخبط فيها منذ سنوات جراء أداء منظومات حكم متعاقبة أعوزتها الكفاءة والخبرة وحتى الوطنية دون أن ننسى النزعة الغنائمية التي ضربت الدولة ومؤسساتها وهيبتها في مقتل.
دَيْن كبير
ان سنة 2023 لم تشذّ عن بقية السنوات وحتى العقود السابقة، وبدوره لم يتراجع أمل التونسيين في غدهم وتشبثهم بوطنهم رغم الإقرار بصعوبة الصمود والمقاومة فكل المؤشرات حمراء بل وحمراء قانية والمقدمات فيها الكثير المحبط كميزانية العام الجديد التي صيغت على قاعدة القص واللصق وفق الميزانيات السابقة.
ويمكن في هذا الإطار ان نعتبر أن سنة 2023 كانت سنة بيضاء على مستوى المنجز الاقتصادي والاجتماعي مثل ما تبيّنه نسبة النمو سواء تلك التي صدح بها رئيس الحكومة أحمد الحشاني يوم قدّم الميزانية إلى نواب الشعب في نوفمبر الماضي أو التي جاءت في تقديرات المؤسسات المالية ومنها البنك الدولي.
صحيح ان تونس أوفت بديونها لدى الدائنين وتمكنت من سداد ما هو متخلد بذمتها للخارج مقابل العجز على ما اعتبرناه تسديدا لـ«الدين الداخلي» ونقصد بذلك ضمانات العيش الكريم وتوفير المواد الأساسية التي أصبحت صور الطوابير من اجل الحصول عليها مذلّة ومهينة للتونسيين ومعبرة في نفس الوقت عن عجز السلطة في الوفاء بما تعد به حيث أنها تعلن بين الفينة والأخرى عن وصول شحنات من السكر او الزيت وتتهم أطرافا بالاحتكار والفساد والحال ان الحقيقة التي لم تعد خافية على احد تفيد بانه ثمة نقص حقيقي في توريد هذه المواد وهو ما دفع ببعض المختصين إلى القول بأن السلطة بصدد الحفاظ على الدعم في الخطاب ورفعه في الواقع..!.
وحتى المبادرات التي قيل انها ستحرك المياه الراكدة وتفتح آفاقا للتنمية ما يزال خراجها دون المعلن فالشركات الأهلية على سبيل المثال لم تستوعب العاطلين عن العمل الذين يُقدّرون بمئات الآلاف وكذلك الأمر بالنسبة الى مردودية هذه الشركات على مستوى الدورة الاقتصادية والأسباب لا تعود فقط الى الفساد والبيروقراطية المتفشية في الإدارة التونسية كما يُروّج دائما.
ثوابت ضرورية
نفس الأمر بالنسبة الى ملفي الأملاك المصادرة والأموال المنهوبة فلا الأموال تهاطلت علينا برا وبحرا وجوا ولا الأملاك التي أصبحت بعهدة الدولة التونسية صمدت او تحسّنت أو على الأقل بيعت لمن هو قادر على إنقاذها وتطويرها..
وهذا الوضع الاقتصادي ألقى بظلاله على المجتمع وعلى العلاقات المجتمعية فتفشت وتنامت الظواهر السلبية كـ«الحرقة» والعنف والطلاق والانقطاع المدرسي والانتحار أضف إلى ذلك تعثر الحوار الاجتماعي وبرود العلاقة بين السلطة والأطراف الاجتماعية بالشقين، الأعراف والأجراء.
وعندما نقول ان سنة 2023 كانت بيضاء اقتصاديا واجتماعيا فلأننا لم نر ما اعتدنا عليه في السابق ولو بكثير من نقائص من حوار بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية وكذلك الاتحاد الوطني للفلاحة والصيد البحري وغيرها من المنظمات المهنية..
وهذه المقاربة هي التي طبعت أيضا الحياة السياسية فكانت سنة رمادية ان جاز القول، سنة تقدّم فيها رئيس الجمهورية في تنفيذ مشروعه السياسي والوصول به الى المرحلة الأخيرة في تركيز المؤسسات بإجراء الانتخابات المحلية، لكن الزخم الذي كان يتمتع به سيادته سواء في السباق الى قرطاج خلال استحقاق الانتخابات الرئاسية سنة 2019 أو في الاستفتاء على دستور 2022 تراجع كثيرا ولم يعد خزانه الانتخابي يتجاوز عشر الناخبين التونسيين وهو ما يطرح بحدة مسألة الشرعية والمشروعية.
سياسيا دائما، صمدت مكونات المجتمع المدني والسياسي بشكل متفاوت ونجحت كثير من الأحزاب والجمعيات والنقابات في صراع الوجود وعقدت مؤتمراتها وجددت هياكلها بنفس الطرق كي لا نقول الأخطاء وهي واعية تمام الوعي بضرورة التغيير وتدرك جيدا ان هذه المسألة هي نقطة الضعف القوية التي تستند اليها السلطة لإقصائهم او تحجيم دورهم او حتى التضييق عليهم وملاحقتهم بسبب بعض الملفات..
آفاق واعدة
ودون مبالغة يمكن القول ان الساحة الوردية الوحيدة التي كانت جليّة للعيان خلال سنة 2023 هي الساحة الدبلوماسية الخارجية أين كان صوت تونس رسميا بنكهة وقناعة شعبية سواء في التعبير عن موقف بلادنا في المحافل الدولية والمؤسسات المالية على وجه الخصوص أو في التعبير عن موقفنا الثابت والمطلق من الحق الفلسطيني.
لقد تعرضت تونس الى عملية ابتزاز فظيع في علاقة بموضوع الهجرة غير النظامية وتمت مقايضتنا بقرض صندوق النقد الدولي وكنا على وشك دفع فاتورة باهظة جراء الخطإ في معالجة وجود أشقائنا الأفارقة من دول جنوب الصحراء حيث ارتفعت أصوات غبية تؤجج وتحرّض عليهم وتتحدث عن مئات الآلاف من الوافدين بطرق غير شرعية إلى أرضنا وهو ما نفاه لحسن الحظ وزير الداخلية بالإعلان رسميا عن أن العدد هو في حدود 80 ألفا..
وسط هذا المشهد هناك نقطة ضوء لا يمكن لأحد حجبها لأنها اشتعلت وأضاءت بأجساد وأرواح وتضحيات ونضالات أبناء هذا الشعب العظيم وهي الحرية، هي مهدّدة في كل وقت وعرضة للتضييق وحتى الانكسار لكن تجذّرها في التجربة التونسية قبل وبعد 2011 كي لا نقلّل من عطاء أجيال وأجيال من التونسيين، هو الذي يجعلنا اليوم نقول ان شعبا حرّا وشعبا يمارس حريته مطالب بالحفاظ على هذه الحرية والمراكمة عليها والاستفادة من الأخطاء لتجاوزها بروح تشاركية وبناء على ثوابت محدّدة لا جدال فيها هي الولاء للوطن والوحدة الوطنية والحوار على قاعدة الاختلاف لأن الاختلاف عنصر ثراء ومحرّك تقدم خلافا للإقصاء والأحادية والشعبوية والهروب إلى الأمام والإستقواء بالخارج وغيرها من المطبّات التي وقعنا فيها في الماضي ولا مجال للبقاء في أسرها في 2024 وما بعدها وكل عام وتونس وشعبها بألف خير.
في تفاعل بعض الوزراء مع نواب المجلسين : شيء من الواقعية وشيء من المبالغة أيضا..!
تتواصل تحت قبة البرلمان هذه الأيام الجلسات العامة المشتركة بين مجلس نواب الشعب والمجلس الو…