2023-12-28

من رئيس الحكومة إلى اتحاد الشغل : «رسالة» إيجابيّة.. وبعد؟

نشر الموقع الرسمي للاتحاد العام التونسي للشغل منشورا موجّها من رئيس الحكومة أحمد الحشاني «الى السيدات والسادة الوزراء وكتّاب الدولة ورؤساء الجماعات المحلية» وموضوعه «استخلاص معلوم انخراط الأعوان العموميين بالاتحاد العام التونسي للشغل بعنوان سنه 2024». .

ويشرح المنشور «المسرّب» كيفيّة استخلاص معلوم الانخراط للأعوان العموميين ويؤكد في التصدير أن هذه الخطوة تأتي «دعما للاتحاد العام التونسي للشغل وتسهيلا لنشاطه».

وكما هو معلوم فإن هذا الإجراء هو من السنن الحميدة التي تم إرساؤها بين الحكومة والمنظمة الشغيلة منذ زمن طويل تماما مثل إجراء «التفرغ» للمسؤولين النقابيين وكذلك تمييز اتحاد الشغل على بقية المنظمات النقابية التي تأسست تحت يافطة التعددية.

ولئن كان هذا المنشور المؤرخ بتاريخ 16 ديسمبر 2023 وهو نفس تاريخ نشره بالموقع الرسمي للاتحاد، إجراء عاديا يتم اتخاذه كل سنة، فانه يكتسي أهمية أكبر هذا العام، ليس لكونه حظي بالاهتمام الإعلامي لقيادة المنظمة الشغيلة فقط، ولكن لأنه يأتي في سياق سياسي واجتماعي واقتصادي غير سليم صراحة ولم يعد ممكنا أمامه إخفاء حقيقة ان العلاقة بين السلطة والاتحاد ليست على مايرام والحال أن الحوار والسلم الاجتماعي ضرورة لا بديل عنها.

ولسنا نبالغ حين نقول ان هذا المنشور هو بمثابة الرسالة الثانية من السلطة القائمة الى قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل منذ مؤتمر صفاقس الأخير المثير للجدل، وقد كانت الرسالة الأولى للتهنئة وتوجّه بها رئيس الجمهورية قيس سعيد الى الأمين العام والمكتب التنفيذي المنبثق عن هذا المؤتمر يوم 21 فيفري 2022 قبل استقباله مباشرة في قصر قرطاج مطلع أفريل من نفس السنة.

ومنذ ذلك التاريخ جرت مياه كثيرة في النهر كما يقال وتواترت الأحداث التي أكدت مفارقة هي في النهاية ليست غريبة عن تونس والتونسيين ولا يمكن للمتابع لتاريخ تونس الحديث ان يتجاهلها وهي ان العلاقة بين السلطة والاتحاد العام التونسي للشغل ليست اختيارا وإنما قدرا، وهي علاقة متحركة، منسجمة ومتوافقة ومتواطئة حينا، ومتوترة ومتصادمة وحتى عنيفة أحيانا اخرى، ولم تفلح أي سلطة عبر التاريخ في القضاء على الاتحاد وبدوره لم يتمكن الاتحاد من تغيير السلطة رغم مساهمته الكبرى في تركيعها أو ترويضها أو تعديلها أو ضمان استمرارها.

منذ مؤتمر صفاقس إذن، لم تتراجع قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل عن موقفها المساند لـ «25 جويلية 2021»، وهو الموقف الذي انجر إليه اغلب الطيف المدني والسياسي وخاصة منه الوازن داخل المنظمة وهذا ما أربك الأداء وجعل البوصلة تتأرجح بين الانخراط الأعمى والمساندة النقدية وفي الحالتين لم ترض السلطة على ما يبدو بهذا الموقف الذي جعل الاتحاد داعما طورا لخيارات قيس سعيد وطورا معارضا له وهو ما استفاد منه خصوم الرئيس وهذه المسألة خط احمر لأن الرئيس قرر عدم العودة الى الوراء في علاقة بخصومه.

ومما زاد في الحرج او في ضعف موقف المنظمة هو وضعها الداخلي الذي زاده جرح المؤتمر الأخير حرجا كي لا نقول تعفّنا فالحديث اليوم عن الانحراف بالديمقراطية وتوظيف مؤسسات الدولة والفساد والانتهازية ومنطق الغنيمة لا يمكن هضمه بسهولة عندما نمارس تعسّفا على الأنظمة الداخلية من أجل تحويرها والبقاء في مواقع متقدمة من القيادة تحديا لفكرة التداول على المسؤولية، دون أن ننسى حالة الانفلات التي ميزت أداء بعض النقابيين وبعض الهياكل النقابية التي أصبحت عبءا على الاتحاد.

ولعل ما أتته نقابات التعليم وخاصة منها نقابة التعليم الأساسي السنة الماضية كان بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس وغرست إسفينا ليس في علاقة الاتحاد بالسلطة فقط وانما في علاقة الاتحاد بالشعب التونسي وقد عجزت قيادة الاتحاد عن تطويق الأزمة وتحمل المسؤولية في الدفاع عن منظوريها بنفس درجة الدفاع عن أهم مشترك بين التونسيين وهو التعليم.

ليس ذلك فحسب، أصبحت قيادة الاتحاد تلهث وراء ما يمكن ان نسميه بـ«اليومي» أي معالجة الأوضاع اليومية للأجراء في القطاعين العام والخاص لتبرير الوجود والنضال، ولم يرتق الدور الى تقديم البدائل التي اعتدنا ان نراها من طرف منظمة حشاد التي كان برنامجها الاقتصادي والاجتماعي هو برنامج الدولة الوطنية وحتى عندما يتحدث قادة المنظمة اليوم عن رؤيتهم وموقفهم من الإصلاحات الكبرى التي تبنتها الحكومة التونسية فان ما يقدمونه لا يعدو كونه شعارات او أدبيات عامة وعمومية لا ترتقي الى بدائل دقيقة وخيارات يمكن ان تنهل منها السلطة او نضعها امتحانا أمامها.

ما هي رؤية الاتحاد العام التونسي للشغل للمؤسسات العمومية مثلا «حالة بحالة» كما يقال، هل لديه خطة للخطوط التونسية، أو لوكالة التبغ والوقيد أو لمصنع الفولاذ أو لمؤسستي الصباح ولابريس وغيرها من المؤسسات العمومية التي نشرت قيادة المنظمة بنفسها قائمة فيها منذ سنوات؟

وحتى تجديد الهياكل القاعدية للمنظمة فقد شابه الكثير من الضجيج صراحة ودون الدخول في تفاصيل، أهل مكّة أدرى بشعابها، فان الاتحاد مدرسة للديمقراطية وفضاء للتعدد، قوته في هذا الاختلاف أولا وثانيا في الانضباط والتضحية والنضال والتطوع وهي خصال لا نجرؤ على إنكارها على احد لكننا نقول ان النضال الحقيقي والنجاح الحقيقي هو في تأمين مستقبل المنظمة وتحصينها من الداخل قبل الخارج، والاتحاد مؤسسة عريقة تتجاوز الأشخاص، وهي حالة وجدانية في ضمير كل تونسي لذلك لا مناص من الحفاظ عليها وتأمين حاضرها ومستقبلها وذلك بالقفز على الاعتبارات الخاصة خصوصا عندما تتواتر الرسائل الايجابية تجاهها..

وليس منشور الحكومة الأخير الرسالة الوحيدة لقيادة المنظمة ولكن هناك رسائل كثيرة جاءتها من القوى السياسية التقدمية التي كانت العمود الفقري والخزان النضالي للاتحاد على مرّ السنين وكذلك بعض النخب والأفراد الذين يرون ان الجرأة في القيادة والجرأة على الانتصار تقتضي ربما خطوة إلى الوراء من أجل تحقيق خطوات كثيرة الى الأمام، خطوة تفرض في تقديرنا ضخ دماء جديدة في المنظمة في أسرع وقت قبل نهاية العهدة الحالية بشكل يقطع الطريق أمام كل محاولات الابتزاز والاختراق وأمام الفشل ايضا في الاضطلاع بالدورين الوطني السياسي والاجتماعي على الوجه الأكمل وسيكون ذلك بالتأكيد حدثا وطنيا بامتياز.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

في تفاعل بعض الوزراء مع نواب المجلسين : شيء من الواقعية وشيء من المبالغة أيضا..!

تتواصل تحت قبة البرلمان هذه الأيام الجلسات العامة المشتركة بين مجلس نواب الشعب والمجلس الو…