كما كان متوقعا شهدت انتخابات المجالس المحلية في دورها الأول عزوفا مواطنيا غير مسبوق ولم يختلف الحال ـ في الواقع ـ عن مشهد العزوف خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة ما يدعو الى التوقف عميقا للقيام بمراجعات ضرورية لما نعتبره تعثرا لا غبار عليه ـ لمسار سياسي بصدد البحث عن شرعية ومشروعية كاملة بسعيه الى استكمال كل المؤسسات ومن أهمّها المجالس المحلية التي تعتبر عنوانا من عناوين «البناء القاعدي» كما يطرحه الرئيس قيس سعيد وفق مروية تسعى الى الدفع بالهوامش حتى تكون حاضرة في السلطة وهي الفكرة التي تترجم «طريق الثورة» التي اشتعلت ـ أولا ـ في سيدي بوزيد ثم مرّت على المدن والهوامش الى أن وصلت الى تونس العاصمة ومن ثمّة الى قرطاج… هذه ـ باختصار ـ فكرة البناء القاعدي حيث يتحرك الهامش و تُتاح له فرصة المشاركة في الانتخابات حتى يكون حاضرا في السلطة وممسكا بالقرار…
ولئن كانت النوايا طيّبة فإنها غير كافية لتحويل «الفكرة» الى أمر واقع والاصعب من ذلك هو كيف تقنع الناس بهذا «البناء الصعب» وسط مناخات سياسية متوترة واقتصادية متردية واجتماعية محبطة…
المراجعة ضرورية وتبدأ ـ أولا ـ بالاعتراف بهذا العزوف المواطني الكبير وعدم إنكاره… فإنكاره والقول ـ مثلا ـ «بأن النتائج محترمة» ـ على حدّ تعبير رئيس هيئة الانتخابات ـ يعنى مزيد مغالطة المسار السياسي وصاحب المسار بل من شأن مثل هذه «التصريحات الانتهازية» الدفع نحو تعثرات قد تكون أخطر وأعمق… وعليه فنحن مطالبون بطرح الاسئلة الحقيقية ومساءلة هذا العزوف المواطني بجديّة حتى نفهم المزاج العام الذي دفع المواطنين التونسيين أو بالاحرى «الناخبين» الى مقاطعة الانتخابات وبنسبة غير مسبوقة.
أولا لنعترف بأنها انتخابات معقدة وهي الأولى من نوعها في تونس من حيث التنظيم القانوني وطريقة الترشح ثم الانتخاب وتدرّج المنتخبين بعد ذلك من المجالس المحلية الى المجالس الجهوية وصولا الى المجلس الوطني للجهات والأقاليم وقد جرت وسط مزاج عام غير مهيّإ ـ في الواقع ـ للانخراط في أي مشروع سياسي وغير مستعدّ للانتماء الى أي فكرة مواطنية ما لم يكن شريكا فاعلا ومؤسسا لهذه الفكرة ونحن هنا أمام «مشروع سياسي» وضعه الرئيس قيس سعيد وأطلق عناوينه بشكل أحادي فلا أحد اشترك معه لا في الشكل ولا في المحتوى ولا في صياغة العناوين نضيف الى هذا أن العزوف المواطني ومقاطعته للانتخابات إنما هو من صميم الانتكاسة التي يشهدها الفضاء العام والذي تحوّل الى فضاء بلا محتوى انسحبت منه كل القوى الفكرية والسياسية والأكاديمية وتركته للمتكلّمين الجدد من مثقفي وسياسيي المرحلة الوافدين حديثا على المشهد مع غياب أو انسحاب «المثقف النقدي» الذي عاد الى عزلته وقطع بذلك صلته بقضايا المجتمع والدولة…كما انسحب المجتمع المدني أحزابا ومنظمات بحيث أصبح الفراغ سحيقا داخل الفضاء العام فلا نقاش ولا جدال ولا منافسات أو مناظرات فكرية ولا تعبير ولا تفكير ولا نقد بل خطاب واحد وتفكير أحادي وصوت واحد يعبّر ويتكلم باسم التونسيين… كما حوصر هذا «الفضاء العام» وهو فضاء تفكير نقدي بالضرورة بمراسيم وقوانين سالبة للحريات خاصة في «حالات الافراط في التفكير» ويعتبر المرسوم 54 من بين الاقفال الثقيلة التي تحاصر «الفضاء العام» وتخنقه اضافة إلى إجراءات أخرى عقابية تمنع «ترذيل» المترشحين للانتخابات أو الحديث عنهم بسوء ما يفسّر اللامبالاة التي واجه بها الاعلام الحملة الانتخابية…
نضيف إلى هذا كلّه فساد مزاج التونسيين وقد يئسوا من حكّامهم ممّن مرّوا عليهم عبر انتخابات كانت فيها الوعود بالرخاء والرفاه والعيش الكريم في حجم العواهن ولم يجنوا ـ في الأخير ـ غير الاحباط وقلّة الزاد وسقوط حرّ تجاه «مراتب فقر ويأس» غير مسبوقة اضافة الى معاناتهم اليومية في «طوابير الإذلال» لتحصيل خبزهم اليومي زائد فقدان أغلب المواد الأساسية وقد دخلنا ـ بالفعل ـ الى ما يمكن ان نسمّيه «مرحلة الندرة» حيث المفقود من المواد الغذائية أكثر وأكبر من الموجود.
كل هذا زائد الفقر وبطالة الأبناء وانسداد الآفاق التشغيلية وارتفاع الأسعار ساهم في افساد المزاج العام والذي لم يعد يبالي بغير ما هو شخصي بحيث يبحث الافراد عن نجاتهم الشخصية وعن نجاة عائلاتهم وابنائهم وما عدا ذلك فلا شيء يهمهم ولا شيء يعنيهم ما حوّل فكرة «المشترك» من قيم المواطنة إلى فكرة هجينة وبلا معنى وسط هذا التدافع اليومي من أجل الحد الأدنى من العيش الكريم وقد ساهم الخطاب السياسي في مزيد تأزيم هذا المزاج بحيث نجح في تشخيص الأزمة لكنه فشل في اختراقها وفي تفكيكها وهي أزمة ثقيلة على التونسيين وقد ضربت معيشهم في تفاصيله اليومية…
هذه الحالة من الاحباط يمكن اعتبارها عنوانا من العناوين التي تفسّر عدم مبالاة التونسيين بالانتخابات المحلية وعزوفهم غير المسبوق نضيف الى هذا معطى آخر مهم جدا كشفته بعمق وبوضوح انتخابات الأحد وهو أن الديمقراطية لا تكتمل الا بوجود الأحزاب المتنافسة ولا تكتمل في غياب مكونات المجتمع المدني وبأن الأحزاب السياسية في تنافسها الانتخابي هي العنوان الأبرز لأي ممارسة انتخابية ديمقراطية..فالانتخابات بلا تنافس حزبي تصبح بلا معنى حقيقي.. بل هي انتخابات بلا محتوى في العمق.. ونعتقد أنّ الرئيس قيس سعيد قد انتبه ـ ربّما ـ الى هذا المعطى بقوله أوّل أمس خلال خروجه من مكتب الاقتراع: «بأنّ بناء تونس الجديدة يجب أن يتمّ بطريقة جماعية..» أي نعم ولا يمكن ـ أيضا ـ إدارة الدولة والمجتمع بصوت واحد وبرأي واحد وبإرادة واحدة بيدها كل السلطات وكل الصلاحيات..
نعم المراجعات ضرورية… والمراجعات لا تعني التنازلات وإنّما هي تعديل في الأفكار وفي السياسات وإنصات للشركاء في الوطن من مثقفين وسياسيين وأكاديميين ولأهل البلد ولأبنائه المخلصين ممّن لم يتورطوا في فساد أو إفساد وهم أغلبية مقابل أقلية أمرها موكول للعدالة.
الحديث عن نظام حكم ديمقراطي غير ممكن إذا ما كانت هذه الديمقراطية بلا محتوى أي بلا أحزاب وبلا مجتمع مدني فاعل ومتنوع.. بحيث نجد أنفسنا أمام ديمقراطية هجينة بلا مثيل سابق في الأدبيات السياسية تجرى فيها الانتخابات بين «هوامش» بلا هويات فكرية أو سياسية وتغيب عنها الأحزاب السياسية فلا حساسيات ولا أفكار ولا برامج ولا تنافس ولا نقاش ولا نقد… ولا شيء غير «تدافع صغير» بين «هوامش» غير قادرة على تمرير الخيط من عين الإبرة…
«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!
من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…