منذ ليلة 25 جويلية ومع القرارات الاستثنائية التي أقدم عليها رئيس الجمهورية قيس سعيد بدا واضحا أن الملف السياسي والقانوني كانا في الصدارة بلا منازع فتجميد البرلمان ومن ثمة حله ثم كتابة دستور جديد للبلاد والاستفتاء وإعلان خارطة طريق سياسية بمقتضاها انتصب برلمان جديد في انتظار اكتمال باقي المؤسسات التشريعية كلها مسائل متصلة بالشأن السياسي.
وظل الملف الاقتصادي في هذا الخضم يراوح مكانه مع تداعيات خطيرة على المعيش اليومي للتونسيين الذين تدهورت مقدرتهم الشرائية بشكل غير مسبوق وتنامى التضخم كذلك وعشنا كل حالات الندرة والشح وغيرها من المصطلحات الاقتصادية التي تترجم من خلال طوابير المواطنين أمام المحلات التجارية باحثين عن المواد الأساسية التي قلت في أسواقنا بشكل ملحوظ.
في الأثناء اعتمد رئيس الجمهورية قيس سعيد استراتيجية مخصوصة تتمثل في الزيارات الميدانية إلى الكثير من مواقع الإنتاج للمواد الأساسية وللشركات سواء العمومية أو حتى الخاصة ومتابعة المنظومات الإنتاجية والسلاسل المتحكمة فيها معتمدا في هذا على خطة اتصالية مباشرة يقدم من خلالها تفاصيل عن الملفات التي تصله واضعا يده على مواطن الفساد ومهددا المفسدين.
وقد تكثفت هذه الإستراتيجية مؤخرا وبشكل ملحوظ وكأننا بدأنا نتلمس ملامح برنامج اقتصادي لرئيس الجمهورية كان منتقدوه دوما ما يؤكدون انه لا يمتلكه ولعله الآن ومع احتدام الأزمة الاقتصادية لأسباب داخلية وخارجية قام بالتسريع في المعالم الكبرى لهذا البرنامج.
والذي يمكن أن نستشف البعض منه من خلال ما جاء على لسان رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي يؤكد أن الدولة لن تتخلى عن دورها الاجتماعي وهو بذلك يعود بنا إلى منطق الدولة الراعية الذي تفضله تيارات سياسية كثيرة وهو لخدمة الطبقة الفقيرة والمتوسطة في حين تنتقده عادة التيارات الليبرالية وأصحاب رأس المال.
كما يبدو واضحا أن رئيس الجمهورية قد اختار منهج المحافظة على المؤسسات العمومية وعدم التفريط فيها مهما كانت الأسباب وهو ما يتقاطع فيه مع اتحاد الشغل على سبيل المثال ويعتبر أن الخوصصة العشوائية والانتقائية التي اعتمدت في تونس قد أضرت كثيرا بممتلكات الدولة وكانت لها تداعيات كبرى على الوضعية المعيشية للتونسيين ولعل آخر الأمثلة على ذلك ما قاله الرئيس سعيد مؤخرا حول شركة «ستيل» التي كانت بمثابة مجمع اقتصادي كبير يضم شركة كانت من ابرز المنتجين للحليب في تونس قبل أن تتم خوصصتها بشكل تحوم حوله الكثير من الشبهات على ما يبدو.
وقد كانت مناسبة طرح هذا الموضوع معضلة الحليب التي يواجهها التونسي اليوم سواء كمستهلك لهذه المادة الحيوية أو كفلاح منتج أيضا خاصة بعد اختلال توازن منظومة الألبان في تونس لأسباب كثيرة.
وما قيل عن الحليب ينطبق أيضا على مادة السكر التي تم طرح أيضا المشاكل المتصلة بالشركة الوطنية المنتجة لهذه المادة. وينطبق هذا على مجمل الشركات الوطنية التي كانت تشكل رافعة للاقتصاد التونسي في مرحلة بناء الدولة الوطنية ولكن مجملها قد أفلس أو بالأحرى تم إفلاسه في سياقات معلومة للتفريط فيه للخواص ولمجموعة من المستفيدين بالتحديد.
والأمر ذاته تم مع الشركات المصادرة في مرحلة ما بعد الثورة حيث تم التفريط فيها عن طريق الزبونية والمحاباة.
ويبدو أن رئيس الجمهورية قيس سعيد قد قرّر تصحيح هذه الوضعية عبر الضرب بيد القانون على كل الذين ساهموا بشكل مباشر أو غير مباشر في هذه المسارات المشبوهة والتدقيق في وضعية الشركات الوطنية حالة بحالة والعمل على أن تستعيد مكانتها في سوق الإنتاج.
وفي سياق حربه المفتوحة على الاحتكار والذي يراه احد أسباب الأزمة الاقتصادية طرح رئيس الجمهورية إمكانية أن تأخذ الدولة بزمام الأمور في استيراد بعض المواد التي تحتكرها فئة قليلة الآن والمثال الحي هو قطاع الأعلاف.
لكن تركيز اهتمام رئيس الجمهورية على دور المؤسسات العمومية في التوازنات الاقتصادية لا يعني عدم الاكتراث بدور رأس المال الوطني وهو ما أكد عليه في عديد المرات شريطة أن يتضح الخيط الأبيض من الخيط الأسود في خصوص الفساد المالي الذي ضلع فيه بعض رجال الأعمال والذين يمكن أن تتم تسوية وضعياتهم حالة بحالة في إطار الصلح الجزائي إذا رغبوا في ذلك.
في سياق آخر يبدو رئيس الجمهورية أكثر ميلا إلى أن تتنوع علاقات تونس الاقتصادية وان لا تكون متركزة على شركائها التقليديين وتحديدا الاتحاد الأوروبي. ولعل الجسور التي بدأت مؤخرا تمتد بين تونس وموسكو والتي قد تمهد لإمكانية دخول تونس منظمة البريكس كما يرى بعض الملاحظين هي خطوة هامة في اتجاه البحث عن رهانات جديدة.
وهنا علينا أن لا ننسى أن الرئيس قيس سعيد قد كان واضحا جدا بشأن المانحين الدوليين وبشأن موضوع الإقراض عموما.ورغم أن تونس مضت في طريق تسديد الديون المتخلدة بذمتها بشكل مقبول إلا ان الثمن كان باهظا تم دفعه من حاجيات التونسيين الأساسية وفي مقدمتها استيراد الأدوية.
إذن بدأت ملامح البرنامج الاقتصادي لرئيس الجمهورية تتضح والأكيد أن هناك من يسانده وهناك من يعارضه وستكون الأيام القادمة مجالا مفتوحا للخوض فيه بالتفصيل وخاصة بارتباطه بالشأن السياسي ونحن قاب قوسين أو أدنى من استحقاقات سياسية مهمة ومصيرية.
التشغيل في تونس : «أم المعارك» التي لا بدّ من خوضها
لا شك ان احد الرهانات المطروحة على تونس اليوم هو التشغيل بكل ما يعنيه هذا الملف من تعقيد …