حتّى لا تبقى تونس رهينة «الشركاء التاريخيين» زيارة وزير الخارجية الروسي ثقيلة ومهمّة ..من أجل تحويل «العلاقات المحتشمة» إلى شراكات استراتيجية
زيارة «ثقيلة» أدّاها الى تونس رئيس الديبلوماسية الروسية ووزير خارجيتها «سيرغي لافروف» ثقيلة من حيث الأهمية ومن حيث ما هو منتظر منها ومن حيث موقع الرجل ـ أيضا ـ في الدولة الروسية والذي يعتبر الشخصية القيادية الأقوى بعد الرئيس بوتين… وهي زيارة ثقيلة باعتبار أهميتها القصوى في هذه المرحلة المتأزمة وفي هذه السياقات الصعبة على تونس كما على روسيا…
روسيا التي تخوض حربا عسكرية مباشرة مع أوكرانيا ومن ورائها أمريكا التي تدعمها عسكريا بالعتاد والخبرات وكذلك أوروبا التي تورطت في هذه الحرب وهي تدفع ـ الآن ـ الثمن باهظا وسيكون باهظا جدا خلال السنوات القادمة وخاصة على الاتحاد الأوروبي الذي يشهد اليوم انتكاسة كبرى مالية واقتصادية وسياسية مع بداية زحف الشعبوية وتقدم اليمين الراديكالي والذي سيكون له حضور أقوى خلال السنوات القادمة في الحكم وقد يستحوذ على السلطة في عدد كبير من دول الفضاء الأوروبي المهدّد ككيان سياسي واقتصادي بالتشظي وهو المصير الموضوعي لهذا الكيان الذي هتكته بريطانيا ـ أولا ـ بانسحابها الناعم وخربته فرنسا في الأخير بسبب صلفها وبسبب مواقفها وعنصريتها تجاه دول الجنوب خاصة وبسبب سياسات الفرز العنصري التي تستهدف العرب والمسلمين وعودتها تدريجيا الى القوانين العنصرية بدفع من اليمين المتطرف وآخرها قانون الهجرة الذي اعتبره اليسار الفرنسي نكسة كبرى لفرنسا التي عرفت وما تزال أتعس فتراتها في التاريخ الحديث مع حكم إيمانويل ماكرون الذي نكل بفرنسا وتاريخها… فرنسا حقوق الانسان المنتصرة للجريمة الصهيونية في غزة…
وسط هذا «التدافع» الاقليمي والدولي وفي أوج حربها المفتوحة ضد أوكرانيا وأمريكا وأوروبا يجد وزير خارجية روسيا متسعا من الوقت لزيارة رسمية بيومين الى تونس في هذا «التوقيت الصعب» وذلك بدعوة من نظيره وزير خارجية تونس السيد نبيل عمار وهي زيارة كانت تأجّلت مرّتين وقد تم الغاؤها من الجانب الروسي لاسباب أمنية والذي قبلها هذه المرة بل اعتبرها «زيارة أولوية» وذات أهمية بالغة…
وهنا يكمن السؤال، ما الذي ستستفيده تونس من هذه الزيارة…؟ وما الذي ستستفيده روسيا في المقابل باعتبار ان لكل تحرك ديبلوماسي أهدافا يتم التخطيط لها مسبقا…؟
ولفهم هذا التقارب التونسي الروسي والمرشح لأن يكون تقاربا عميقا لا بد من وضعه في سياقه السياسي وبالعناوين الكبرى التي اطلقها الرئيس قيس سعيد وأيضا في السياق السياسي الروسي واختياراته الجديدة التي أعلن عنها الرئيس بوتين كتداعٍ من تداعيات الحرب الروسية ضد أوكرانيا ومن ورائها أمريكا وأوروبا برمّتها…
لنبدأ من تونس أولا والتي لم يعد رئيسها قيس سعيد مطمئنا لتدخل المعسكر الغربي بكل امتداده الامريكي الاوروبي في الشأن الداخلي التونسي والذي أصبح جاثما على الارادة التونسية منتهكا لسيادتها ولارادات شعبها وقد ازداد هذا التوتر حين أطلق الرئيس قيس سعيد مسار 25 جويلية 2021 وبعد تشغيله الفصل 80 من الدستور وبعد اسقاطه لآخر حكومة قبل اطلاق المسار وبعد حلّ البرلمان جاءت ردود الفعل الاوروبية والامريكية ـ في البدء ـ معادية للمسار واعتبرته انقلابا على الدستور وعلى الشرعية وأطلقت العنان لإعلامها الذي أفرد مساحات شاسعة للحديث عن انقلاب قيس سعيد وقد تم وصفه «بالديكتاتور» ثم تتالت بعد ذلك زيارات الوفود الاوروبية والامريكية من البرلمان الأوروبي ومن الكونغرس الأمريكي والتي كانت تؤدي «زيارات تفقد للديمقراطية التونسية» التقت خلال بالمعارضة وبخصوم قيس سعيد وبمنظمات من المجتمع المدني وأصدرت تقارير وبيانات ندّدت كلّها بما وصفته «بالمسار الانقلابي» وقد كان خطاب الوفود البرلمانية والذي تبنته ـ في البداية الديبلوماسية الامريكية والاوروبية أيضا وخاصة فرنسا حادّا وشديد اللهجة تجاوز كل تقاليد التخاطب مع الدول ذات السيادة بل هو هتك هذه السيادة وانتهكها وفي المقابل جاءت ردّة فعل الرئيس قيس سعيد جريئة وقوية وسيادية رافضة لكل أشكال التدخل في الشؤون التونسية بل هو أذن بعدم قبول أي وفد برلماني أو حقوقي يفد على تونس دون علم السلطات التونسية وقد تم ـ بالفعل ـ رفض دخول عديد الشخصيات البرلمانية الى تونس خاصة بعد تبني البرلمان الأوروبي موقفا يشجب ما أسماه استبداد قيس سعيد ومن الوقائع الكبرى في هذا السياق واقعة طرد الأمينة العامة للاتحاد الأوروبي للنقابات بعد تصريح لها انتقدت فيه مسار 25 جويلية خلال مشاركتها في مسيرة احتجاجية نظمها اتحاد الشغل.
داخل هذه الفوضى والاختراق الممنهج «للسيادة الوطنية» كثف الرئيس قيس سعيد من خطاباته الموجهة مباشرة الى الغرب الأوروبي والأمريكي وصاغ «خطاب سيادة» عالي النبرة أعلن من خلاله رفض تونس لأي شكل من أشكال التدخل في شؤونها وقصف صندوق النقد الدولي في خطاب المنستير الشهير (6 أفريل 2023) منددا بسياسات الصندوق رافضا لكل إملاءاته ولم يتراجع الرئيس عن «خطابه السيادي» القويّ رغم الضغط الأوروبي ـ الأمريكي الذي هدّد بقطع كل أشكال الدعم الغذائي والمالي لتونس.
مقابل هذا التوتر مع «الشركاء التاريخيين» كان لا بدّ من التوجه الى دول من خارج الفضاء الأوروبي والأمريكي وبالتالي تقوية «العلاقات المحتشمة» وتحويلها الى شراكات حقيقية وهو ما حصل بالفعل مع روسيا التي لم تكن لتونس علاقات قوية معها سواء على المستوى السياسي الديبلوماسي أو الاقتصادي والتجاري ما عدا بعض التبادلات الثنائية الصغرى وقد اختارت دولة قيس سعيد توطيد العلاقات التونسية الروسية وكانت البداية بدعوة وزير الخارجية لزيارة رسمية الى تونس كان من المتوقع ـ كما أشرنا ـ أن يؤديها في شهر فيفري 2023 إلاّ أنّها تأجلت لأسباب أمنية في حين اكدت تقارير إعلامية غربية بأنها تأجلت تحت ضغط أمريكي على تونس لا نؤكده ولا ننفيه ـ في الواقع ـ بل نتوقعه باعتبار الانزعاج الأوروبي الأمريكي من التمدّد الروسي في افريقيا وفي شمالها تحديدا..
ومن عناوين هذا التقارب بين تونس وروسيا هذا التعاون الاستراتيجي في مجال الطاقة ما تؤكده واردات تونس في الأشهر الأخيرة من ذلك مثلا استيراد ما يقدر بـ75000 برميل من «الديازيل» الروسي بمعدل يومي خلال شهر فيفري 2023 أي ثلاثة أضعاف وارداتها قبل هذا التاريخ اضافة الى منتجات نفطية مختلفة زائد واردات تونس من القمح والتي تعمّقت ـ أيضا ـ في الأشهر الأخيرة…
أمّا روسيا فقد وجدت في الرئيس قيس سعيد وفي سياساته الشخص المناسب لتبديل تاريخ العلاقات بين البلدين بل توطيدها وتحويلها الى علاقات شراكة استراتيجية وبالتالي كسر ذاك الجمود وتلك البرودة التاريخية بين البلدين… فتونس ليست بلدا معاديا لروسيا ولا للاتحاد السوفياتي ـ تاريخيا ـ لكنه لم يكن شريكا له لا في المواقف ولا في المبادلات الاقتصادية والتجارية التي كانت وما تزال ـ في الواقع ـ حصريا مع أوروبا وأمريكا وهو الفضاء الذي ارتهنت له تونس ارتهانا كاملا… لذلك فإنّ التقارب التونسي الروسي اليوم إنّما يعتبر منعرجا تاريخيا في العلاقات الدولية وهو منعرج تسعى اليه روسيا بوتين التي امتدت أو هي بصدد التمدد في افريقيا وهي المزود الرئيس لها بالأسلحة اضافة الى سعيها للتواجد بمنطقة الشمال الافريقي وتحديدا منطقة المغرب العربي وهي متواجدة بالفعل وقد دعّمت علاقاتها بالجزائر حتى على المستوى العسكري وحاضرة ايضا بكثافة في شرق ليبيا وتتحرك في تونس بقوة على المستوى الثقافي خاصة من خلال الحضور اللافت لأنشطة المركز الثقافي الروسي الذي يحرص على تعليم اللغة الروسية للتونسيين بالمجان اضافة الى استضافته لعروض مشهدية مرجعية من روسيا زائد منح دراسية للراغبين في مواصلة الدراسة بالكليات الروسية وقد بلغت رقما قياسيا خلال هذه السنة…
وما يؤشر على سعي روسيا بوتين لتقوية العلاقات مع دولة قيس سعيد تعيينها لسفير جديد لها بتونس يتقن اللغة العربية ومختص في شؤون منطقة المغرب العربي اضافة الى حملات ترويج كبرى للوجهة التونسية يقوم بها الاعلام الروسي التابع لوزارة الخارجية الروسية ولا ننسى /ـ هنا ـ ان روسيا في حاجة الى منافذ جديدة تخرجها من الاختناق الجاثم على جسدها نتيجة الحرب التي تشنها على أوكرانيا والتي كلفتها باهظا ماليا واقتصاديا زائد العقوبات الأمريكية الأوروبية والتي أغلقت أمامها سوقا شاسعة في الفضاءين الأوروبي الأمريكي ولذلك تسعى روسيا للتوسع في افريقيا جنوبا ووسطا وشمالا وتعتبر تونس البلد الأمثل لبسط النفوذ الروسي في افريقيا بداية من شمالها المفتوح على المتوسط وعلى كل التجارة البحرية في المنطقة… لذلك تعتبر الشراكة مع تونس ذات أولوية استراتيجية باعتبارها البوابة المثلى للتمدد في منطقة المغرب العربي وفي افريقيا مع انفتاح كامل على التجارة البحرية ومناطق العبور على ضفاف المتوسط…
تونس اليوم في حاجة الى شراكة حقيقية مع روسيا للخروج من مأزقها الاقتصادي وروسيا ـ ايضا ـ في حاجة الى تونس باعتبار موقعها الاستراتيجي الذي أشرنا اليه… وبين هذا وذاك ينظر الغرب الأوروبي والأمريكي الى هذا التقارب بقلق وبانزعاج شديدين لن يمر دون الافصاح عنه ديبلوماسيا…
«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!
من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…