2023-12-17

منذ «الانفجار الثوري» في الدولة التونسية يوم 17 ديسمبر 2010..: حصل «التّفكيك» وتعثّر «التّركيب»..!

للسنة الثالثة على التوالي تحيي تونس «عيد الثورة» يوم 17 ديسمبر وذلك بعد أن أقدم رئيس الجمهورية قيس سعيد يوم 3 ديسمبر 2021 على تغيير الاحتفال بهذه الذكرى من 14 جانفي إلى 17 ديسمبر من كل سنة على أساس أن التاريخ الأول غير ملائم وان «شرارة الاحتجاجات» انطلقت من سيدي بوزيد يوم أضرم محمد البوعزيزي النار في جسده، «ولكن للأسف تم احتواء الثورة» على حد تعبيره.

والمتابع للشأن التونسي سواء من الداخل أو الخارج يلاحظ ان زخم الاحتفال بالثورة أو الانتفاضة أو الانقلاب وفق التعبيرات المتداولة فتر وتقلّص على امتداد الأعوام بل وأصبحت ميزته الرئيسية التشتت والانقسام، انقسام بين مظاهر احتفال السلطة والشارع الشعبي وفي نفس الوقت انقسام داخل الشوارع السياسية والمدنية.
بقي أن اختلاف القراءات والتصنيفات لما حدث في تونس بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011، لا يمكنه البتّة نفي أو القفز على حقيقة أن الشعب التونسي أنجز للأسف ملحمة لم تكتمل وهي لا تعود إلى اليوم الذي لاذ فيه البوعزيزي رحمه الله إلى العصيان والتمرّد والتضحية بجسده احتجاجا على «الحقرة» وإنما إلى انتفاضات الحوض المنجمي 2008 وقبلها معركة كسر العظام مع الاتحاد العام التونسي للشغل في 1985 وانتفاضة الخبز في 1984 والإضراب العام في 26 جانفي 1978 وغيرها من المحطات التي قدّمت فيها أجيال كثيرة من التونسيين الغالي والنفيس من أجل الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وتظل أحداث نهاية العقد الأول وبداية العقد الثاني من القرن الـ21 فارقة في تاريخ تونس والمنطقة والعالم دون مبالغة ـ وليس أدلّ على ذلك ممّا نكتبه اليوم ـ رغم حصول الردّة أو ما يسمّيها البعض بالثورة المضادة أو كما قال ساكن قرطاج احتواء الثورة.

متاهات بالجملة
لقد توفرت للتونسيين فرصه تاريخية لتأسيس تجربة فريدة غير أن متغيرات كثيرة وعناصر داخلية وأخرى خارجية تحالفت وأوصلتنا إلى ما نحن فيه اليوم والذي يمكن تفسيره ببساطة بأن الدولة تعرّضت بالفعل إلى عملية تفكيك بالمعنى السياسي والاجتماعي والمؤسساتي وتعثرت بعد ذلك عملية التركيب واستعادة عافية الدولة ومؤسساتها وآلياتها.
لقد شكّلت لحظة فرار الرئيس السابق زين العابدين بن علي لحظة تفكيك الدولة بامتياز وضرب منظومة الحكم في مقتل وتجسّد ذلك في حالة الارتباك والارتجال في تأمين انتقال السلطة والاستنجاد برسكلة وجوه من النظام القديم دون ان ننسى انهيار حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم آنذاك وخذلان أبنائه لـ«الأب الزعيم القائد»، كل هذا في غياب قيادة حقيقية قوية للثورة، وحتى المنظمة الشغيلة التي كانت هي الفاعل الرئيسي في تلك الحقبة تاهت بين مربّع الدور النقابي، والجرأة على الاضطلاع بدور سياسي أكثر تقدّما بتشكيل مشروع سياسي مثلا يمكن له تأمين المرحلة والإمساك بالحكم وقيادة البلاد كما حصل في تجارب مقارنة..

لقد كانت لانعكاسات ضرب هيبة الدولة وتفكيكها تداعيات ثقيلة وخطيرة ومدمّرة على عملية الإنقاذ والتدارك، وتفاقم الأمر باتخاذ الحياة السياسية في تونس منعرجا دمويا مباشرة بعد انتخابات المجلس التأسيسي في 23 أكتوبر 2011 والذي سيطر بواسطته الإسلام السياسي بقيادة تنظيم النهضة على المشهد وروّج لخطاب العنف والكراهية فتغوّل بذلك الإرهاب وبدأ مسلسل الجرائم في حق العباد والبلاد.

بعد واقعة شارع بورقيبة 9 أفريل، ورشّ سليانة، والاعتداء على بطحاء محمد علي، سال الدم وسقط شهيد الوطن شكري بلعيد الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد والقيادي بالجبهة الشعبية، وبعده سقط شهيد الجمهورية الحاج محمد البراهمي مؤسس التيار الشعبي والقيادي أيضا بالجبهة الشعبية، وتواصلت في غضون ذلك عمليات استهداف بواسل المؤسسة الأمنية والعسكرية وكذلك استهداف المدنيين والرعاة وحتى السياح الأجانب..!
والى اليوم يتواصل مسلسل محاكمة بعض المشتبه بهم في اقتراف هذه الجرائم على أيدي قضاء تعرّض بدوره وبوصفه من مقومات وركائز الدولة إلى عملية تفكيك، وما يزال البحث جاريا ومضنيا من أجل إعادة ترتيبه.

اجتماعيا، يكفي أن تتجول في المدن والقرى لتكتشف مشاهد مذلّة للتونسيين الذين حلموا بالحرية والكرامة، ولا نتحدث هنا عن الطوابير التي أصبحت مألوفة أمام المخابز والفضاءات التجارية الكبرى من أجل الظفر بالخبز أو الحليب أو السكر أو الطحين أو الزيت وغيره، ولكن على تفشي ظاهرة التسول وعلى إقدام بعض التونسيين على جمع قوتهم من أكوام القمامة، أجل في قلب العاصمة ثمّة من أبناء شعبنا من يلجأ للقمامة لسدّ الرمق دون ان ننسى تنامي ظاهرة «الحرقة» وظواهر مقيتة كثيرة أخرى تنتهي بالانتحار والقتل والنشل والسرقة والطلاق والانقطاع المدرسي واستهلاك المخدرات وكل ما يمكن أن يتخيّله المرء في مجتمع أنهكته الأزمة المركّبة..

الجرأة على الانتصار
اقتصاديا، الأرقام مفزعة والخطير أننا نفاخر في سنة 2023 أي بعد 13 سنة من «الانفجار الثوري» بتسديد ديون الخارج دون أن نتفطّن إلى حقيقة مؤلمة وهي أن التداين الذي تخلّد بذمة الدولة المنهكة بعد 2011 لا يقارن البتّة بما كان قبله، ولعل استمرار صياغة مشاريع ميزانية الدولة وقوانينها المالية بنفس الطريقة ونفس الفرضيات سيفضي في المحصلة إلى نفس النتائج بقطع النظر عن الأحلام والشعارات والتي من بينها تغيير منوال التنمية، وحتى الحلول الأخيرة المتمثلة في الشركات الأهلية ومبادرة الصلح الجزائي والحرص على استرجاع الأموال المنهوبة ومعالجة ملف الأملاك المصادرة، جميعها متعثّرة أو هي تسير ببطء يتساءل عنه حتى الرئيس، والنتيجة تفاقم البطالة بما في ذلك في أوساط أصحاب الشهائد العليا وغياب حلول في الأفق لتعبئة موارد الميزانية للعام 2024.

سياسيا، وحتى قانونيا وجزائيا ربما، تتحمل منظومات الحكم المتعاقبة منذ 2011 -كما السابقة صراحة – مسؤولية الفشل في إعادة ترتيب البيت الداخلي، ولم يعد خاف على أحد أن البعض تعامل بمنطق الغنيمة مع الدولة وقام برسكلة رموز النظام القديم والاستفادة من خدماتهم كما عوّل البعض على اللوبيات وعلى مراكز النفوذ المالي والاقتصادي ببلادنا دون أن ننسى المراهنة على الدعم الخارجي علاوة على انعدام الكفاءة ونقص التجربة وهي جميعها أسباب ومسبّبات أطالت فترة الانتظار وراكمت للأسف حجم الدمار وتعثر الديمقراطية وتنامي الفساد وتهديد المكاسب وفي مقدمتها مكسب الحرية عامة وحرية التعبير بشكل خاص.

وحتى الخطوات التي تم تنفيذها منذ «25 جويلية 2021» الذي خلق فيه رئيس الجمهورية قيس سعيد أمرا واقعا جديدا استحسنه طيف واسع من التونسيين، ما تزال بعيدة عن تحقيق أحلام التونسيين المشروعة.
ما العمل إذن؟ ببساطة إذا كانت الأسباب التي أدّت إلى «الانفجار الثوري» وكذلك الأسباب التي أدت إلى عدم استكمال ملحمة 17 ديسمبر 2010 ـ 14 جانفي 2011، قائمة فان الحلول ليست مستحيلة على شعب تواق للتحرر والانعتاق وفيه من القوى الحية ومن النخب والكفاءات والمنظمات والأحزاب والنقابات ومن القوى المدنية والسياسية بشكل عام، «موالية» و«معارضة»، من هي قادرة على الإنقاذ والإصلاح والتأسيس لتونس الجديدة على قاعدة المشاركة الجماعية والانفتاح والثقة والوحدة الوطنية، باستثناء من وضع نفسه خارجها بطبيعة الحال ومن كان سببا في تفكيك الدولة وعدم ترتيبها في الآجال المناسبة وفوّت بالتالي على التونسيين فرصة كتابة التاريخ الجديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

في تفاعل بعض الوزراء مع نواب المجلسين : شيء من الواقعية وشيء من المبالغة أيضا..!

تتواصل تحت قبة البرلمان هذه الأيام الجلسات العامة المشتركة بين مجلس نواب الشعب والمجلس الو…