المقاومة والقسمة الفلسطينية الغائبة في غزة
تؤكد إسرائيل ومن يقف وراءها، باستمرار، في حربها الوحشية على غزة وناسها، انها تواجه المقاومة من رجال حماس فقط، وتنتصب حماس ممثلة للمقاومة الفلسطينية إعلاميا وترويجيا واستراتيجيا واحتكارا، دون الحديث عن تقاسم أدوار او خيارات أخرى.
المخاوف الأميركية من اتساع نطاق الحرب في غزة، تبددت وهو ما أتاح الفرصة لكي تتوغل إسرائيل في سفك الدماء. الطمأنينة منحتها قدرة أكبر على توجيه الصواريخ إلى مراكز الإيواء التابعة للأونروا.
حبل الانتقام من المدنيين الفلسطينيين يطول، بمقدار ما يطول حبل القناعة بأن أحدا لن يهدد إسرائيل بشيء آخر، لكي يفرض وقفا لإطلاق النار بالقوة.
خيارات القوة في الإقليم كانت مستبعدة أصلا. العديد من دول المنطقة اختارت طريق الدفاع عن الحقوق الفلسطينية بوسائل سلمية. وهو خيار عملي مفتوح، منذ اتفاقات كام ديفيد. ولقد مرت على هذا الخيار اختبارات، أو امتحانات، كثيرة وعصيبة، إلا أنه صمد أمام عواصفها مجتمعة. لماذا؟ من ناحية، لأن القسط الأكبر من الفلسطينيين اعتبروه خيارا عمليا لأنفسهم أيضا. ومن ناحية أخرى، لأن القناعة التي تقول إنك لا تستطيع أن تحرر شعبا إذا لم تكن أنت نفسك حرا، أثبتت قوّتها.
الفلسطينيون حتى وإن انقسموا حول خيار السلام، فإن انقسامهم نفسه ظل يدور حول سؤال البدائل من دون أن يلقى جوابا موحدا. والعرب حتى وإن انقسموا على الموقف من العلاقات مع إسرائيل، إلا أن كلا منهم ظل يواجه تحدياته الخاصة.
دول الصمود مثل الجزائر وسوريا والعراق، مأزومة بنفسها. ودول السلام ترى منعطفا اقتصاديا عاصفا وتخشى أن تخسر السباق فيه، فيضيع كل شيء لمائة عام مقبلة أو أكثر. ترى بوضوح أن الفرص المتاحة اليوم سوف تختفي في غضون ربع القرن المقبل، وهي ما لم تتدارك اليوم، فإنها لن تتدارك غدا. سيكون القطار قد فات.وهناك، ضمن هذا الفريق دول مثل الأردن ومصر، تواجه معضلات اقتصادية لا تتعلق بتدبير شؤون الغد، وإنما بشؤون خبز اليوم، حصرا.
الأردن، في هذا السياق، اكتفى بتحديد خطوطه الحمر، على اعتبار أن تنفيذ سياسة تهجير جماعية للفلسطينيين في غزة سوف يؤدي إلى سياسة تهجير جماعية في الضفة الغربية، مما يهدد الوجود الكياني للمملكة. وهو ما اعتبره الأردن زإعلان حربس، لأنه سيكون كذلك بالفعل.
بمعنى آخر، أرجأ الأردن التدخّل في الحرب إلى حين أن تصبح حربا فعلية عليه. وهو يضغط باتجاه إحياء زحل الدولتينس، لتجنب تلك الحرب.
مصر، المأزومة بجبل من الديون، حوّلت الحرب إلى فرصة للحصول على إعفاءات وقروض ميسرة. خبز 100 مليون إنسان حاجز إستراتيجي لا يمكن تجاهله. ولو أن الدول المانحة هي التي ضغطت على هذا الحاجز، من دون حرب على غزة، لكان الوقوف وراء اندلاعها خيارا معقولا من الناحية الإستراتيجية.
إيران وحلفاؤها كانوا هم الوحيدين من حملة السلاح الذين يريدون تحرير فلسطين، ويوجهون الإنذارات لإسرائيل، أربع مرات كل خمس دقائق (هذا، لو أنك أحصيت ما يُدلى به من التصريحات الرسمية وغير الرسمية والميليشياوية). ولكن انتهى الأمر حسب ما يتم تداوله بأن قبضت إيران ثمن الصمت (صمت السلاح، لا صمت الضجيج) على ذبح غزة. بضع مليارات من الدولارات، كانت كافية لجعل هذا الصمت مدويا. ولكن بقيت للضجيج مناوشات على جبهة الشمال، تساعد في إبقائه ضجيجا حيا.
الأسئلة في إيران، ولدى ميليشياتها، هي: وماذا نفعل إن لم ندّع أننا نريد الموت لإسرائيل؟ وبما نغطي مشروعنا الطائفي في العراق وسوريا ولبنان واليمن؟ وما الذي يوفر المبرر لمجازرنا الخاصة التي ارتكبناها هنا وهناك وهنالك؟
حماس نفسها تعرف الآن أن زوحدة الساحاتس مع الدول العربية ومع وريث الدولة العثمانية وكذلك مع إيران وحزب الله كانت وهما ليس أقل دويا من قصف الصواريخ على غزة. تعرف أكثر أن الرهان على مشاريع متضاربة أقربها طائفي تسبب بسلسلة طويلة من المجازر في العراق وسوريا، وكان رهانا أرعن. لا توجد كلمة أفضل من هذا الوصف.
وحدة الساحات الحقيقية التي كان يجدر الرهان عليها، هي الساحات الفلسطينية بالذات. ليس ساحة الضفة الغربية والقدس وحدهما، وإنما ساحة الداخل الفلسطيني أيضا. هذه الساحات وإن كانت هي مصدر القوة الحاسمة في التغلب على المشروع الصهيوني، فإنها تتطلب جرأة أكبر من إطلاق الصواريخ على العدو المشترك. كانت تتطلب جرأة على تقديم خيار وطني، نضالي مشترك، يعيد تقسيم المواقف والبدائل الإستراتيجية، على قاسم أعظم.هذه الجرأة هي التي ظلت ناقصة. وليس من المتوقع أن تتوفر قريبا.
بحرب أم من دونها، غزة لا يمكنها أن تحقق نصرا من دون ساحاتها الداخلية. لا يحتاج الأمر فهما معقدا. سبعة ملايين فلسطيني هم الظهير الوحيد الذي يمكن التعويل عليه. وما لم يقتسم الفلسطينيون قسمتهم المشتركة، فيما بينهم، على وجهة إستراتيجية، غالبة على الأقل إن لم تكن موحدة، فلا تعجب لماذا تتحول سلطة محمود عباس في الضفة الغربية إلى امسخرةب، كما لا تعجب لماذا تتحول سلطة حماس في غزة إلى مجزرة. كما لا تعجب كيف يسود الخوف والرهبة في أوساط فلسطينيي 48. في ظروف أخرى، كان فلسطينيو الداخل هم السباقون في المواجهة مع الاحتلال والعنصرية. زيوم الأرضس، الذي يحتفل به الفلسطينيون في كل مكان، هو يوم للمقاومة أقامه ويديمه فلسطينيو !الداخل. أين هم اليوم؟ حتى أنك لن تعثر على تظاهرة.
هذه مفارقة. ولكن عجز حماس عن الانخراط في القسمة، وإيمانها القاطع بأن طريقها وحده هو الصحيح، هما اللذان يقفان وراءها.
حسن أن تتمكن من تكبيد عدوك خسائر زفادحةس. ولكن كم هي زفادحةس حقا؟ ألف، ألفان، ثلاثة آلاف جندي، زائد ناقص، هل سيغير الكثيرَ بالنسبة للمشروع الصهيوني، أو لمن يقف خلفه؟ وعشرة أو عشرون أو خمسون مليار دولار من الخسائر الاقتصادية، هل تشكل معضلة لإسرائيل فعلا؟ هل أدلّك على شركة واحدة في الولايات المتحدة تستطيع تعويض هذا المبلغ من دون الحاجة إلى طلب دعم من الكونغرس؟
إسرائيل لا تخوض حربا في غزة. الحرب بدأت وانتهت (كما يقول الخبير العسكري في قناة الجزيرة القطرية) يوم 7 أكتوبر. كل ما بقي منها هو الانتقام. كل ما بقي هو سفك الدماء الذي لا يُفضي إلى شيء أكثر من سفك الدماء نفسه. لا سياسة، ولا أفق، ولا حتى مفاوضات على أي شيء يتعدى تبادل الأسرى.
معادلة حماس الاعلامية، أو التي ظلت تتغاضى فيها عن القبول بالقسمة بين الخيارات الفلسطينية، انتهت إلى صفر سياسي واستراتيجي كبير.
هذا أمر لا علاقة له بالموقف البطولي الذي يواجه به المسلحون الفلسطينيون قوات الاحتلال في غزة. إذا كنت تبحث عن دفاع عن النفس، فهذا هو الدفاع عن النفس. إنه شيء تفعله تلقائيا، وبديهيا، من دون أي اعتبارات سياسية أو فكرية. أعط أي غزاوي بندقية ودعه يتصرف، من دون أن تسأله عن أي انتماء آخر غير أنه ابن تلك الأرض فقط.
إذا كان ثمة تعويض جدير بأن تنحني له الظهور وترفع له القبعات عاليا، ولكل ما تم تقديمه من ضحايا، فهو السعي لبناء إستراتيجية قسمة فلسطينية مشتركة؛ قسمة تراهن على سبعة ملايين فلسطيني، وتكف عن الرهان على سند عربي لن يأتي ودعم تركي لا يظهر، وعلى إيران وحزب الله، أو على مشروع ميليشياوي طائفي كان وراء مقتل وتهجير ما لا يقل عن 18 مليون إنسان في العراق وسوريا وحدهما، فما بالك بجوع لبنان وخراب اليمن.
للقطع مع ممارسات الماضي ومؤسساته : تونس ورؤية الهدم وإعادة البناء
تواجه تونس اليوم خياراً استراتيجياً في مسارها التنموي يتمثل في كيفية إعادة بناء الدولة وتح…