ما يزال المرسوم 54 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال محلّ جدل ونقاش جدي في الاوساط الحقوقية والاعلامية ولدى شريحة واسعة من المشتغلين على شبكة الانترنات وصنّاع المحتوى من منتجين وناشرين وصحفيين ومدونين لما تضمنه هذا المرسوم من فصول (وخاصة الفصل 24) جاءت لكأنها أقفال على الألسن والافواه ولسنا ـ هنا ـ بصدد افشاء سرّ وإنما هي الحقيقة التي يدركها عميقا المشرّع ذاته والذي وضع بنفسه المرسوم وصاغ فصوله ومنطوقه من خلال مصطلحات فضفاضة لا يمكن الإمساك بها الاّ بعد اخضاعها الى تأويلات مختلفة يمكن تركيبها على المقاسات التي نريد… وهنا تكمن خطورة هذا المرسوم أي من داخل هذه المصطلحات والمعاني الفضفاضة القابلة لكل التأويلات اضافة بطبيعة الحال الى عقوبات زجرية سالبة للحريات وقد تحولت الى ما يشبه الحصار المضروب بشدة على كل أشكال التعبير الحرّ والمسؤول حتى وإن كان من باب االمنشورات الفايسبوكيةب..
ولئن قصد المشرّع بهذا المرسوم حماية مؤسسات الدولة وتحصين القيم المواطنية من كل انتهاك للأشخاص والاعراض وحماية أمن الدولة ومواطنيها من الاشاعات الكاذبة التي من شأنها إرباك الأمن العام فإنه ومع اقرارنا بـاالنوايا الطيبةب فإنه في الأثناء وبما وضعه من فصول ثقيلة قد جرّم عبر صياغات ملتبسة افعالا غير دقيقة ضمن الفصل 24 بما أورده من مصطلحات غامضة تتعارض كما يؤكد ذلك أهل الاختصاص مع فلسفة التشريع في المادة الجزائية التي تستدعي الوضوح في صياغة النصوص والدقة في وضع المصطلحات غير القابلة للتأويل خاصة في باب تجريم الافعال…
فغموض المصطلحات الواردة داخل النص ونتحدث ـ هنا ـ عن الفصل 24 من المرسوم عدد 54 من شأنه أن يمنح السلطات القضائية والامنية صلاحيات مطلقة لتأويل النصّ وفصوله تأويلا مزاجيا وبالتالي تركيبها وفق المقاسات المطلوبة مسبقا بما يحوّل الحق الى باطل والباطل الى حق…
ومن المآخذ ـ مثلا ـ على ما ورد في منطوق الفصل 24 هوعدم تفريقه أو بالأحرى تشبيك الافعال وتجريمها دون قياس ما بينها من خطورة ومن تفاوت بما يجعل الافعال متناسبة مع العقوبة من ذلك اقرار الفصل 24 لعقوبات زجرية لجريمة نشر الاخبار الزائفة أو الاشاعات الكاذبة ويضعها في نفس المرتبة مع جرائم الثلب والشتم وهتك الاعراض والأدهى من ذلك فإننا نجد ما يجعل من االمواطنةب درجات فـاالموظف العموميب كما جاء في الفصل 24 يحظى بحصانة استثنائية بحيث ترتفع العقوبة السجنية الى عشر سنوات و100 ألف دينار خطيّة اذا ما تعلقت الاشاعة أو الاخبار الزائفة بموظف عمومي (من الوزير الى الغفير كما يقولون) وقد اعتبرت هذه العقوبات قاسية وشديدة ومتعارضة مع المعايير الدولية والقوانين المقارنة والتي اختارت عقوبة االخطيّة الماليةب ـ فقط ـ لكل من يروّج الاشاعات والاخبار الزائفة التي من شأنها ارباك الامن العام أو الاساءة للذات البشرية… وكما هو بيّن فإن هذا الفصل اضافة الى مغالاته في اقرار سلب الحريات غير المتناسب مع الافعال فإنه أيضا يضرب مبدأ المساواة بين المواطنين ويعطي للموظف العمومي ويمنحه ما يشبه الحصانة لشخصه وبصفته ولا يمنحها لباقي المواطنين من خلق الله ما حوّل االمواطنةب الى درجات فئوية قطاعية ـ ان صح الاستعمال ـ ومن الامثلة على عدم دقة الصياغة في الفصل 24 من المرسوم 54 نجد الاقرارات التالية:
ايعاقب بالسجن مدة خمسة أعوام وبخطية قدرها خمسون ألف دينار كل من يتعمّد استعمال شبكات وأنظمة معلوماتية واتصال لانتاج أو ترويج أو نشر أو ارسال أو اعداد أخبار أو بيانات أو اشاعات كاذبة أو وثائق مصطنعة أو مزورة أو منسوبة كذبا للغير بهدف الاعتداء على حقوق الغير أو الاضرار بالأمن العام أو الدفاع الوطني أو بث الرعب بين السكان…
وسط هذا المنطوق نجد صياغة ملتبسة لا يمكن الانتباه إليها كونها مدسوسة بين فرضيتين حيث يقول المشرع :ايعاقب بالسجن مدة خمسة اعوام وبخطية قدرها خمسون ألف دينار كل من يتعمد استعمال شبكات وأنظمة معلوماتية واتصال لانتاج أو ترويج أو نشر أو ارسال أو اعداد أخبار أو بيانات أو اشاعات كاذبة…ب وهنا يكمن الالتباس فالمشرع لم يقل اعداد اخبار وبيانات كاذبة..وإنّما قال اإعداد أخبار (أو) بيانات (أو) إشاعات كاذبةب.!؟ بما يعني أنه بالامكان تجريم الاخبار والبيانات حتى وإن لم تكن كاذبة ومن باب الاشاعة…
هذا ما تقوله الصياغة بوضوح وقد يكون الامر متعمّدا أو هو مجرّد خطإ في الصياغة لكنه ـ في الواقع ـ خطأ باهظ جدّا إذا ما توقف االقاضيب عند اأَوْب التي تنزع الاشتباك بالبيان أو الخبر…
وفي المرسوم نجد أيضا عديد الفصول التي تحاصر حرية التعبير ـ في الواقع ـ وتضع عليها اقفالا شديدة من ذلك ما ورد في الفصل التاسع المتعلق بسرية المعلومة ومصادرها والتي تناولها بوضوح المرسوم عدد 115 المتعلق بحرية الصحافة حيث أن الفصل التاسع يضرب ما جاء بالفصل 17 من المرسوم 115 ويصادر حق الصحفي في الاحتفاظ بمصادره ما لم يصدر اذن من النيابة العمومية بالافصاح عنها…
وفي كل الاحوال لا يمكن بأي شكل من الاشكال الدفاع عن المرسوم عدد 54 أو اسناده وخاصة بالنسبة للمشتغلين بالاعلام وكل محامله فالعقوبات الزجرية السالبة للحريات والتي تزجّ بالناس في متاهات قضائية سجنية لا تتناسب ـ في الواقع ـ مع الافعال المجرّمة سواء كانت أكاذيب أو اشاعات فايسبوكية وقد اثبتت آلية الخطايا المالية نجاعتها في أوروبا اضافة الى التعويل على وعي المواطنين ودفعهم ـ عبر تكثيف الجانب التوعوي ـ الى الايمان بقيم المواطنة والعيش المشترك حتى وإن كان ذلك افتراضيا… أما ان نترك أبواب السجون مفتوحة هكذا والمصائر مرتهنة الى المزاجات والتأويلات فإن الامر يصبح غير مقبول ولا يمكن الدفاع عنه حتى من باب المجاملة…!؟
مع العلم ان المرسوم 54 قد أصدره الرئيس قيس سعيد بتاريخ 13 سبتمبر 2022دون اخضاعه ـ مسبقا ـ للنقاش العام… وتلك مسألة أخرى…!
«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!
من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…