2023-11-20

عن فيلم حنبعل والجدل الدائر حوله : نحن و سؤال التاريخ والهوية والانتماء

نحن‭ ‬شعب‭ ‬يمعن‭ ‬في‭ ‬التنكيل‭ ‬برموزه‭ ‬الثقافية‭ ‬هذه‭ ‬حقيقة‭ ‬مع‭ ‬الأسف‭ ‬علينا‭ ‬الإقرار‭ ‬بها‭ ‬ويكفي‭ ‬أن‭ ‬ننظر‭ ‬حولنا‭ ‬في‭ ‬أشكال‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬مبدعينا‭ ‬الكبار‭ ‬ومفكرينا‭ ‬ومصلحينا‭ ‬وحتى‭ ‬بعض‭ ‬ساستنا‭ ‬الذين‭ ‬نال‭ ‬منهم‭ ‬الغبـن‭ ‬في‭ ‬حياتهم‭ ‬وبعضهم‭ ‬تم‭ ‬تجاهله‭ ‬حيّا‭ ‬وميّتا‭. ‬

نقول‭ ‬هذا‭ ‬ونحن‭ ‬نتابع‭ ‬جدلا‭ ‬صاخبا‭ ‬حول‭ ‬الرمز‭ ‬التاريخي‭ ‬والحضاري‭ ‬حنبعل‭ ‬الذي‭ ‬عاد‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬دفات‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ‭ ‬إلى‭ ‬واجهة‭  ‬الأحداث‭ ‬من‭ ‬العالم‭  ‬الافتراضي‭ ‬والسجال‭ ‬الدائر‭ ‬فيه‭ ‬بشأن‭ ‬فيلم‭ ‬سينمائي‭ ‬يتم‭ ‬الإعداد‭ ‬له‭ ‬لإنجازه‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬واختار‭ ‬صنّاعه‭ ‬ان‭ ‬يكون‭ ‬البطل‭ ‬أسود‭ ‬البشرة‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬معلوم‭  ‬الممثل‭ ‬دنزل‭ ‬واشنطن‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تؤكده‭ ‬الوقائع‭ ‬التاريخية‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬التماثيل‭ ‬أو‭ ‬السيرة‭ ‬العرقية‭ ‬للبطل‭ ‬التاريخي‭ ‬إذ‭ ‬من‭ ‬المعروف‭ ‬انه‭ ‬كان‭ ‬امتوسطياب‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬العرق‭ ‬وبالتالي‭ ‬ملامحه‭ ‬لا‭ ‬تمت‭ ‬بصلة‭ ‬إلى‭ ‬الزنوج‭ ‬الأفارقة‭.‬

‭ ‬طبعا‭ ‬هذا‭ ‬المعطى‭ ‬لا‭ ‬يغير‭ ‬من‭ ‬حقيقة‭ ‬انتماء‭ ‬تونس‭ ‬إلى‭ ‬القارة‭ ‬السمراء‭ ‬التي‭ ‬منحتها‭ ‬اسمها‭ ‬وليس‭ ‬فيه‭ ‬إنكار‭ ‬لجزء‭ ‬من‭ ‬هويتنا‭ ‬الحضارية‭ ‬الإفريقية‭.‬

لكن‭ ‬هذا‭ ‬الاختيار‭ ‬الفني‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬بريئا‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬استنكروا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬وهو‭ ‬يحيل‭ ‬في‭ ‬نظرهم‭ ‬على‭ ‬مقولات‭  ‬اأورو‭ ‬مركزية‭ ‬ثقافيةب‭ ‬تجعل‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬خارج‭ ‬دائرة‭ ‬أوروبا‭ ‬وأمريكا‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬البيض‭ ‬وتستبطن‭ ‬هذه‭ ‬الثقافة‭ ‬استعلاء‭ ‬وعنصرية‭ ‬بغيضة‭. ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬تؤكد‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المقولات‭ ‬التي‭ ‬فندها‭ ‬التاريخ‭ ‬وكذلك‭ ‬الجغرافيا‭ ‬عن‭ ‬كون‭ ‬سكان‭ ‬تونس‭ ‬القدامى‭ ‬من‭ ‬السود‭.‬

وإذا‭ ‬علمنا‭ ‬أن‭ ‬انجاز‭ ‬هذا‭ ‬الفيلم‭ ‬وفق‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬يتنزل‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬يعيش‭ ‬فيه‭ ‬العالم‭ ‬مخاضا‭ ‬عسيرا‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬السياسية‭ ‬والحضارية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬التي‭ ‬تؤثر‭ ‬حتما‭ ‬على‭ ‬الرؤى‭ ‬والتمثلات‭ ‬الثقافية‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬فن‭ ‬السينما‭ ‬فإن‭ ‬درجة‭ ‬التوجس‭ ‬تبدو‭ ‬أعلى‭ ‬وفق‭ ‬ـ‭ ‬دائما‭ ‬ـ‭ ‬هؤلاء‭ ‬الناقدين‭ ‬لهذا‭ ‬الاختيار‭.‬

غير‭ ‬ان‭ ‬التباكي‭ ‬اليوم‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الاختيار‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يبدو‭ ‬صائبا‭ ‬وعلى‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬وسمه‭ ‬بتحريف‭ ‬تاريخ‭ ‬القائد‭ ‬القرطاجني‭ ‬العظيم‭ ‬ابن‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬وأحد‭ ‬رموزها‭ ‬التاريخية‭ ‬الفذة‭ ‬لا‭ ‬يجعلنا‭ ‬نتغافل‭ ‬عن‭ ‬حقائق‭ ‬مهمة‭ ‬متصلة‭ ‬بذاتنا‭ ‬وهويتنا‭ ‬الثقافية‭ ‬وعلاقتنا‭ ‬بتاريخنا‭ ‬وهي‭ ‬مسألة‭ ‬بالغة‭ ‬الخطورة‭ ‬ولها‭ ‬علاقة‭ ‬بالانتماء‭ ‬لهذا‭ ‬البلد‭ ‬بكل‭ ‬أبعاده‭.‬

والحقيقة‭ ‬أننا‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬شعبا‭ ‬مثلنا‭ ‬يتجاهل‭ ‬تاريخه‭ ‬ولا‭ ‬يفخر‭ ‬برموزه‭ ‬وثقافته‭ ‬التاريخية‭ ‬محدودة‭ ‬ولا‭ ‬تكاد‭ ‬تذكر‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬شجع‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬االأشقاءب‭ ‬قبل‭ ‬الأصدقاء‭ ‬على‭ ‬السطو‭ ‬على‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬رموزنا‭ ‬بل‭ ‬تراثنا‭ ‬المادي‭ ‬واللامادي‭ ‬وجزّأ‭ ‬انثروبولوجيا‭ ‬بلادنا‭ ‬من‭ ‬مأكل‭ ‬وملبس‭ ‬وتقاليد‭ ‬وغيرها‭ ‬بل‭ ‬بلغ‭ ‬الأمر‭ ‬حدود‭ ‬السطو‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬منتوجاتنا‭ ‬الغذائية‭ ‬المعروفة‭ ‬عالميا‭ ‬كماركات‭ ‬تونسية‭ ‬مسجلة‭ ‬وهذا‭ ‬أمر‭ ‬يطول‭ ‬شرحه‭ ‬ويصدق‭ ‬فيه‭ ‬المثل‭ ‬العربي‭ ‬امن‭ ‬يهن‭ ‬يسهل‭ ‬الهوان‭ ‬عليهب‭.‬

أما‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬بطلنا‭ ‬حنبعل‭ ‬والذي‭ ‬أصبح‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬التاريخ‭ ‬أسطورة‭ ‬إنسانية‭ ‬لا‭ ‬اختلاف‭ ‬عليها‭ ‬علينا‭ ‬الاعتراف‭ ‬بأننا‭ ‬فرّطنا‭ ‬فيه‭ ‬بأشكال‭ ‬وطرائق‭ ‬مختلفة‭ ‬ففي‭ ‬حدود‭ ‬علمي‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬تماثيل‭ ‬ضخمة‭ ‬لهذا‭ ‬القائد‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬ساحة‭ ‬عمومية‭ ‬تونسية‭ ‬ولا‭ ‬وجود‭ ‬لشوارع‭ ‬كبيرة‭ ‬ورئيسية‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬التونسية‭ ‬تحمل‭ ‬اسمه‭ ‬وتخلّد‭ ‬ذكره،‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬منحوتات‭ ‬في‭ ‬متاحفنا‭ ‬تخلّد‭ ‬ملامحه‭ ‬باستثناء‭ ‬تمثال‭ ‬قديم‭ ‬أو‭ ‬اثنين‭ . ‬

ومنذ‭ ‬أواخر‭ ‬الستينات‭ ‬تاريخ‭ ‬إنشاء‭ ‬التلفزيون‭ ‬التونسي‭  ‬إلى‭ ‬اليوم‭ ‬أنتجت‭ ‬الدراما‭ ‬التونسية‭ ‬أعمالا‭ ‬عديدة‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬التاريخي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬والكوميدي‭ ‬ولم‭ ‬تتفتق‭ ‬موهبة‭ ‬أي‭ ‬كاتب‭ ‬تونسي‭ ‬عن‭ ‬عمل‭ ‬حول‭ ‬حنبعل‭.‬ولا‭ ‬حول‭ ‬أي‭ ‬شخصية‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬صنعوا‭ ‬ملامح‭ ‬المجد‭ ‬والفخر‭ ‬لهذا‭ ‬البلد‭. ‬

فلا‭ ‬الشابي‭ ‬ولا‭ ‬الحداد‭ ‬ولا‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬نجد‭ ‬لهم‭ ‬حضورا‭ ‬في‭ ‬الذاكرة‭ ‬الجماعية‭ ‬وأسماؤهم‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬كونها‭ ‬أسماء‭ ‬محطات‭ ‬قطار‭ ‬أو‭  ‬أحياء‭ ‬شعبية‭ ‬أو‭ ‬أسواق‭ ‬أو‭ ‬غيرها‭. ‬وعندما‭ ‬أنجز‭ ‬عمل‭ ‬درامي‭ ‬ضخم‭ ‬عن‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬كان‭ ‬نتاج‭ ‬صناعة‭ ‬الدراما‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وجسد‭ ‬دور‭ ‬البطولة‭ ‬فيه‭ ‬الراحل‭ ‬نور‭ ‬الشريف‭.‬

طبعا‭ ‬نحن‭ ‬عموم‭ ‬التونسيين‭  ‬لا‭ ‬نعلم‭ ‬الكثير‭ ‬عن‭ ‬حنبعل‭  ‬ولا‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬حتما‭ ‬من‭ ‬شخصياتنا‭ ‬العملاقة‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭  ‬بعض‭ ‬علمائنا‭ ‬وأطبائنا‭ ‬ليسوا‭ ‬سوى‭ ‬أسماء‭ ‬مستشفيات‭ ‬لا‭ ‬كتب‭ ‬تتحدث‭ ‬عنهم‭ ‬ولا‭ ‬أفلام‭ ‬ولا‭ ‬مسلسلات‭ ‬تخلّد‭ ‬سيرهم‭.‬

وسيكون‭ ‬من‭ ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬حنبعل‭ ‬بركة‭ ‬هو‭ ‬قائد‭ ‬عسكري‭  ‬تاريخي‭ ‬عملاق‭ ‬وحاكم‭ ‬استثنائي‭ ‬يعانق‭ ‬الأسطورة‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬قرطاج‭ ‬عام‭ ‬247‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭ ‬وتختلف‭ ‬المصادر‭ ‬بشأن‭ ‬تاريخ‭ ‬وفاته‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬183‭ ‬او‭ ‬181‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭ ‬بمنطقة‭ ‬تقع‭ ‬شمال‭ ‬تركيا‭ ‬الحالية‭. ‬حارب‭ ‬روما‭  ‬في‭ ‬أوج‭ ‬سطوتها‭ ‬ونفوذها‭ ‬وحاصرها‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬15‭ ‬عاما‭ ‬وحقق‭ ‬انتصارات‭ ‬عسكرية‭ ‬في‭ ‬حوض‭ ‬المتوسط‭ ‬لم‭ ‬يسبقه‭ ‬إليها‭ ‬قائد‭ ‬آخر‭. ‬وعرف‭ ‬بخططه‭ ‬التكتيكية‭ ‬العسكرية‭ ‬الدقيقة‭ ‬وكان‭ ‬سابقا‭ ‬لعصره‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭. ‬وككل‭ ‬الأبطال‭ ‬كانت‭ ‬نهايته‭ ‬تراجيدية‭ ‬نتيجة‭ ‬غدر‭ ‬لحق‭ ‬به‭ ‬فآثر‭ ‬الانتحار‭ ‬بالسم‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحمله‭ ‬في‭ ‬فص‭ ‬خاتمه‭ ‬عندما‭ ‬تمت‭ ‬محاصرة‭ ‬القصر‭ ‬الذي‭ ‬احتمى‭ ‬به‭ ‬بعد‭ ‬معارك‭ ‬كرّ‭ ‬وفرّ‭. ‬

والغريب‭ ‬أن‭ ‬رفاته‭ ‬مازالت‭ ‬إلى‭ ‬اليوم‭  ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬الذي‭ ‬دفن‭ ‬فيه‭ ‬قرب‭ ‬مضيق‭ ‬البوسفور‭  ‬ولم‭ ‬يتم‭ ‬نقلها‭ ‬إلى‭ ‬تونس‭ ‬بل‭ ‬لم‭ ‬يفكر‭ ‬أي‭ ‬سياسي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭. ‬وهذا‭ ‬يعكس‭ ‬بدقة‭ ‬ووضوح‭ ‬أشكال‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬الرموز‭ ‬عموما‭ ‬ومع‭ ‬حنبعل‭ ‬خصوصا‭ ‬وبالتالي‭ ‬لا‭ ‬مبرر‭ ‬للبكائيات‭ ‬وسرادق‭ ‬اللطميات‭ ‬المقامة‭ ‬في‭ ‬مواقع‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬ويمكن‭ ‬الاستعاضة‭ ‬عنها‭ ‬بحملة‭ ‬وطنية‭ ‬لاستعادة‭ ‬رفات‭ ‬قائدنا‭ ‬العظيم‭ ‬و‭ ‬إنتاج‭ ‬عمل‭ ‬درامي‭ ‬ضخم‭ ‬عنه‭ ‬يكون‭ ‬أفضل‭ ‬رد‭. ‬لكن‭ ‬هذا‭ ‬لن‭ ‬يحدث‭ ‬قطعا‭ ‬وستخفت‭ ‬هذه‭ ‬الهبّة‭ ‬الفايسبوكية‭ ‬ويتواصل‭ ‬عرض‭ ‬شوفلي‭ ‬حل‭ ‬للمرة‭ ‬المليون‭ ‬في‭ ‬التلفزة‭ ‬العمومية‭ ‬أما‭ ‬التلفزات‭ ‬الخاصة‭ ‬فحتى‭ ‬تعد‭ ‬أطباق‭ ‬رمضان‭ ‬من‭ ‬واحي‭ ‬شوربب‭ ‬وما‭ ‬جاوره‭. ‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

التشغيل في تونس : «أم المعارك» التي لا بدّ من خوضها

لا شك ان احد الرهانات المطروحة على تونس اليوم هو التشغيل بكل ما يعنيه هذا الملف من تعقيد  …