عن فيلم حنبعل والجدل الدائر حوله : نحن و سؤال التاريخ والهوية والانتماء
نحن شعب يمعن في التنكيل برموزه الثقافية هذه حقيقة مع الأسف علينا الإقرار بها ويكفي أن ننظر حولنا في أشكال التعاطي مع مبدعينا الكبار ومفكرينا ومصلحينا وحتى بعض ساستنا الذين نال منهم الغبـن في حياتهم وبعضهم تم تجاهله حيّا وميّتا.
نقول هذا ونحن نتابع جدلا صاخبا حول الرمز التاريخي والحضاري حنبعل الذي عاد من بين دفات كتب التاريخ إلى واجهة الأحداث من العالم الافتراضي والسجال الدائر فيه بشأن فيلم سينمائي يتم الإعداد له لإنجازه في الولايات المتحدة الأمريكية واختار صنّاعه ان يكون البطل أسود البشرة كما هو معلوم الممثل دنزل واشنطن وهو ما لم تؤكده الوقائع التاريخية ولا حتى التماثيل أو السيرة العرقية للبطل التاريخي إذ من المعروف انه كان امتوسطياب من حيث العرق وبالتالي ملامحه لا تمت بصلة إلى الزنوج الأفارقة.
طبعا هذا المعطى لا يغير من حقيقة انتماء تونس إلى القارة السمراء التي منحتها اسمها وليس فيه إنكار لجزء من هويتنا الحضارية الإفريقية.
لكن هذا الاختيار الفني لا يبدو بريئا كما قال العديد من الذين استنكروا ما حدث وهو يحيل في نظرهم على مقولات اأورو مركزية ثقافيةب تجعل كل من هو خارج دائرة أوروبا وأمريكا ليس من البيض وتستبطن هذه الثقافة استعلاء وعنصرية بغيضة. كما أنها تؤكد الكثير من المقولات التي فندها التاريخ وكذلك الجغرافيا عن كون سكان تونس القدامى من السود.
وإذا علمنا أن انجاز هذا الفيلم وفق هذه الرؤية يتنزل في إطار يعيش فيه العالم مخاضا عسيرا من الناحية السياسية والحضارية والاقتصادية التي تؤثر حتما على الرؤى والتمثلات الثقافية ومن بينها فن السينما فإن درجة التوجس تبدو أعلى وفق ـ دائما ـ هؤلاء الناقدين لهذا الاختيار.
غير ان التباكي اليوم على هذا الاختيار الذي لا يبدو صائبا وعلى ما تم وسمه بتحريف تاريخ القائد القرطاجني العظيم ابن هذه الأرض وأحد رموزها التاريخية الفذة لا يجعلنا نتغافل عن حقائق مهمة متصلة بذاتنا وهويتنا الثقافية وعلاقتنا بتاريخنا وهي مسألة بالغة الخطورة ولها علاقة بالانتماء لهذا البلد بكل أبعاده.
والحقيقة أننا لا نعرف شعبا مثلنا يتجاهل تاريخه ولا يفخر برموزه وثقافته التاريخية محدودة ولا تكاد تذكر وهو ما شجع الكثير من االأشقاءب قبل الأصدقاء على السطو على الكثير من رموزنا بل تراثنا المادي واللامادي وجزّأ انثروبولوجيا بلادنا من مأكل وملبس وتقاليد وغيرها بل بلغ الأمر حدود السطو على بعض منتوجاتنا الغذائية المعروفة عالميا كماركات تونسية مسجلة وهذا أمر يطول شرحه ويصدق فيه المثل العربي امن يهن يسهل الهوان عليهب.
أما بالنسبة إلى بطلنا حنبعل والذي أصبح على مدار التاريخ أسطورة إنسانية لا اختلاف عليها علينا الاعتراف بأننا فرّطنا فيه بأشكال وطرائق مختلفة ففي حدود علمي لا توجد تماثيل ضخمة لهذا القائد في أي ساحة عمومية تونسية ولا وجود لشوارع كبيرة ورئيسية في المدن التونسية تحمل اسمه وتخلّد ذكره، بل لا توجد منحوتات في متاحفنا تخلّد ملامحه باستثناء تمثال قديم أو اثنين .
ومنذ أواخر الستينات تاريخ إنشاء التلفزيون التونسي إلى اليوم أنتجت الدراما التونسية أعمالا عديدة ما بين التاريخي والاجتماعي والكوميدي ولم تتفتق موهبة أي كاتب تونسي عن عمل حول حنبعل.ولا حول أي شخصية أخرى من الذين صنعوا ملامح المجد والفخر لهذا البلد.
فلا الشابي ولا الحداد ولا ابن خلدون نجد لهم حضورا في الذاكرة الجماعية وأسماؤهم لا تتجاوز كونها أسماء محطات قطار أو أحياء شعبية أو أسواق أو غيرها. وعندما أنجز عمل درامي ضخم عن ابن خلدون كان نتاج صناعة الدراما في مصر وجسد دور البطولة فيه الراحل نور الشريف.
طبعا نحن عموم التونسيين لا نعلم الكثير عن حنبعل ولا عن غيره حتما من شخصياتنا العملاقة من ذلك أن بعض علمائنا وأطبائنا ليسوا سوى أسماء مستشفيات لا كتب تتحدث عنهم ولا أفلام ولا مسلسلات تخلّد سيرهم.
وسيكون من المهم أن نقول إن حنبعل بركة هو قائد عسكري تاريخي عملاق وحاكم استثنائي يعانق الأسطورة ولد في قرطاج عام 247 قبل الميلاد وتختلف المصادر بشأن تاريخ وفاته ما بين 183 او 181 قبل الميلاد بمنطقة تقع شمال تركيا الحالية. حارب روما في أوج سطوتها ونفوذها وحاصرها على امتداد 15 عاما وحقق انتصارات عسكرية في حوض المتوسط لم يسبقه إليها قائد آخر. وعرف بخططه التكتيكية العسكرية الدقيقة وكان سابقا لعصره في هذا المجال. وككل الأبطال كانت نهايته تراجيدية نتيجة غدر لحق به فآثر الانتحار بالسم الذي كان يحمله في فص خاتمه عندما تمت محاصرة القصر الذي احتمى به بعد معارك كرّ وفرّ.
والغريب أن رفاته مازالت إلى اليوم موجودة في المكان الذي دفن فيه قرب مضيق البوسفور ولم يتم نقلها إلى تونس بل لم يفكر أي سياسي في هذا الأمر. وهذا يعكس بدقة ووضوح أشكال التعاطي مع الرموز عموما ومع حنبعل خصوصا وبالتالي لا مبرر للبكائيات وسرادق اللطميات المقامة في مواقع التواصل الاجتماعي ويمكن الاستعاضة عنها بحملة وطنية لاستعادة رفات قائدنا العظيم و إنتاج عمل درامي ضخم عنه يكون أفضل رد. لكن هذا لن يحدث قطعا وستخفت هذه الهبّة الفايسبوكية ويتواصل عرض شوفلي حل للمرة المليون في التلفزة العمومية أما التلفزات الخاصة فحتى تعد أطباق رمضان من واحي شوربب وما جاوره.
التشغيل في تونس : «أم المعارك» التي لا بدّ من خوضها
لا شك ان احد الرهانات المطروحة على تونس اليوم هو التشغيل بكل ما يعنيه هذا الملف من تعقيد …