وصلت الجريمة الصهيونية في قطاع غزة الى مدى سحيق ومظلم يشبه تلك البقعة السوداء من الأبد حيث اللاشيء… جريمة بحجم ثقيل على الانسانية ولن يذكرها التاريخ الاّ ليدينها كأعمق تشوّه عرفته الانسانية على يد أكبر الكيانات الاجرامية والأكثر دموية في تاريخ الحروب والشعوب…
أعجب ـ شخصيا ـ من الدول والشعوب ـ وخاصة العربية والاسلامية ـ والتي تتعاطى ـ الى الآن ـ مع اسرائيل على أنها دولة ومؤسسات وعلى أن شعبها مواطنون احرار… أعجب من الدول العربية والاسلامية التي سبق لها أن طبّعت مع اسرائيل وعقدت معها الصفقات والتبادلات الديبلوماسية والاقتصادية والتجارية والرياضية والثقافية وما تزال… أعجب من الأيادي التي تمتد لتعانق الدم ولتصافح الجريمة…
ندرك جيّدا امكانياتنا وحجمنا نحن كشعوب عربية واسلامية… كما ندرك ان الجيوش العربية لن تتحرك من أجل الآخرين ـ حتى وإن كانوا أشقاء ـ وندرك ان هذه الجيوش قد أخرجت من استراتيجياتها المواجهة المسلحة مع اسرائيل وإن هي تحركت فلردع شعوبها إن هي استعصت أو قامت ضدّ حكّامها… كما ندرك ان البلاد العربية فيها ما يكفيها من قضايا ومشاكل عالقة فقضايا الداخل كبيرة ـ أيضا ـ ومرهقة ولا يمكن التغافل عنها وخاصة قضايا التنمية والغذاء والفقر والبطالة والعجز المالي والاقتصادي وتعطل كل امكانيات الثروة والفساد اضافة الى استبداد الحكام وقضايا التضييق على الحريات وحقوق الانسان وغيرها من االاعاقاتب التي حوّلت المجتمعات العربية والأنظمة العربية الى ما يشبه الجسد المعتل المنهمك في مداواة تقرّحاته وكلما انتهى من عضو تداعت له بقية الاعضاء وهكذا…
خلاصة القول هي مجتمعات ميؤوس من شفائها الداخلي وهي بصدد ترميم مجتمعاتها واقتصادياتها وغير قادرة ـ موضوعيا ـ على توفير العدالة الغذائية لشعوبها وبالتالي فإن أي امغامرةب عسكرية وأي تحريك غير مدروس لجيوشها يعتبر بمثابة التوجه من تلقاء نفسها الى الجحيم وانتحارا جماعيا لا يمكن التحريض عليه…
لقد جرّبت بعض الأنظمة العربية المواجهة العسكرية المباشرة مع اسرائيل ولم تنتصر أبدا عليها ما عدا اانتصار مؤقتب في حرب 1973 وأقول مؤقتا باعتبار أن هذا الانتصار قد ساهم أيضا في عودة أو في استرجاع اسرائيل لتفوقها العسكري بعد ذلك من خلال الدعم التسليحي الكبير من طرف أمريكا التي ضخت لها السلاح والعتاد بما حقق التفوق العسكري الاسرائيلي… كما أن فكرة اازالة اسرائيل من الوجودب والقائها في البحر لم يعد ممكنا تحقيقها لاعتبارات موضوعية عديدة أوّلها ان اسرائيل متفوقة ـ بالفعل ـ عسكريا وتمتلك سلاحا نوويا حاسما اضافة الى ان القوة العسكرية العظمى في العالم أي أمريكا لا تخفي استعدادها الدائم للمحاربة جنبا الى جنب مع اسرائيل بل أكثر من ذلك فأمريكا مستعدة لتحويل كل المنطقة الى اجغرافيا جحيميةب من أجل اسرائيل والتي تخوض ـ اليوم ـ حرب ابادة ضدّ سكان غزّة وتفوقها واضح على الأرض رغم ما تلقاه من مقاومة غير قادرة موضوعيا على مواجهة الآلة العسكرية الاسرائيلية الأمريكية ما عدا بعض الانتصارات التي لا يمكن مقارنتها بالخسارات.. وعليه واذا ما سلمنا بان الانظمة العربية والاسلامية لن تدخل في مواجهة عسكرية مباشرة مع اسرائيل وبأن قضايا الداخل لا يمكن الاستهانة بها ـ أيضا ـ وبأن لا وجود لنظام عربي له من الاستعداد ليندفع نحو عملية انتحار جماعية فانه علينا ان نسأل ما العمل…؟ هل نكتفي نحن كشعوب عربية واسلامية باحصاء الشهداء والجرحى الى ان تتم ابادة الحياة في غزة…؟ هل نكتفي بمسيرات الغضب في الشوارع…؟ ما العمل…؟ هل ننقلب على حكامنا ما لم يحركوا جيوشهم لمواجهة اسرائيل..؟
هذه في الواقع تصورات خاطئة للحرب وأسئلة حماسية عاطفية لا تدرك حقائق الامور ولا حقائق الارض ولا موازين القوى في المنطقة…
فالصراع العربي الاسرائيلي لن ينتهي أبدا… وسيبقى من نكبة الىنكسة ومن مجزرة الى مجزرة ومن هدنة الى هدنة وبين هذا وذاك اتفاقات سلام ووقف اطلاق نار فلا حرب ولا سلم ولا سلام مع حكومة اليمين المتطرف والتي ترى السلام في إبادة تامة لسكان الأرض الأصليين أو في تهجيرهم واخراجهم منها بالحديد والنار…
فاسرائيل تبنّت ـ من عندنا ـ ذاك التصور العربي وتلك المقولة التي كانت راسخة لدى النخب العربية وهي اازالة اسرائيل من الوجود بالقوة العسكرية العربية الموحدة والقائها في البحرب واسرائيل تتحرك بهذا الدافع القوي من أجل تأصيل وتثبيت وجودها قبل أن يبادر الآخرون إلى إقتلاعها لذلك تسعى اسرائيل الى أن تكون متفوقة اقليميا في مستوى جاهزيتها العسكرية على دول الجوار مجتمعين…
لقد اتّسعت دائرة الحرب التي فجّرتها اسرائيل في المنطقة وهي تتجه الى مزيد التصعيد والاتساع لكنها في كل الاحوال لن تتسع في اتجاه حرب اقليمية تتورط فيها دول الجوار على غرار لبنان ومصر والاردن وسوريا وإيران… فاسرائيل تدرك حجم الخسارات في مثل هذه الاحوال وأمريكا تدرك عميقا ذلك ولن تسمح بحدوث أي اتساع اقليمي للحرب التي تخوضها اسرائيل على غزة وقد وصلت اليوم الى حدود قصوى أبعد من الجريمة وأبعد من المجزرة…
نعود الى سؤال البدء.
بعيدا عن تصورات الرأي العام العربي لمسألة الحرب والسلم وهي ـ كما أشرنا ـ تصورات خاطئة لا تدرك حقيقة الامور وباعتبار ادراكنا بأن الانظمة العربية لن تحرك جيوشها في اتجاه مواجهة عسكرية مباشرة مع اسرائيل ولها مبرراته في ذلك فما الذي يمكن ان تفعله الانظمة العربية وشعوبها من أجل غزة ومن أجل القضية الفلسطينية برمّتها…؟
الواقع أن الشعوب العربية مطالبة أولا بتحرير نفسها من استبداد حكّامها… فلا خير في شعب مُنِعَ من التظاهر السلمي في شوارع بلده من أجل نصرة غزة ولا خير في شعب مُنِع من رفع الراية الفلسطينية في الاماكن العامة ولا خير في شعب حكامه مطبّعون مع الكيان الصهيوني بالاصابع العشرة…ولا خير في شعب ترفرف فيه راية اسرائيل على رأس السفارة في العواصم العربية…
على الشعوب العربية ان تتحرّر أولا من استبداد حكّامها وان تخرج الى الشوارع من أجل ذلك ومن أجل حريّتها… فإن تحرّرت بإمكانها وقتها ان تصرخ من أجل حرية الآخرين.
لغزّة رجال اشدّاء يقاتلون من أجلها ولها رب يحميها…
«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!
من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…