تمارس الصحافة الفرنسية تعتيما واسعا على جبهة المعارضة التي تتحرك ضدّ السياسات الخارجية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وتنكر شجب النخبة الأكاديمية وغضبها من هذا التدمير الكبير الذي أوقعه «ماكرون» في الاسس الصلبة التي كانت تقف عليها الديبلوماسية الفرنسية كما ينكر الاعلام الفرنسي ان أهل الثقافة والفنّ من مختلف الحساسيات مستاؤون من «التبعية العمياء» لامريكا والتي اضعفت فرنسا واخرجتها من مناطقها التقليدية أو ما يسمى «بالحدائق الخلفية» لفرنسا أي افريقيا بكل امتدادها الجغرافي…
تشوهات عميقة أحدثها الرئيس الفرنسي «ماكرون» على جسد الديبلوماسية الفرنسية والتي كانت الى وقت قريب الأكثر دهاء والأكثر توازنا في تعاطيها مع القضايا الاقليمية والدولية أو في تعاملها مع «الحكام الجدد» من «عسكر افريقيا» والتي تم اخلاؤها ـ تقريبا ـ من الوجود الفرنسي سواء كان عسكريا أو ديبلوماسيا…
فشل السياسات الخارجية الفرنسية والتي يقودها «ماكرون» ظهرت للعيان وبوضوح خلال الحرب الروسية الأوكرانية حيث نجحت «أمريكا» وعبر فرنسا في توريط كل أوروبا في هذه الحرب بل وجعلت من فرنسا «جغرافيا» متقدمة في مواجهة تكاد تكون مباشرة مع موسكو والتي تعاملت مع «ماكرون» بتعالٍ كبير خلال لقائه ببوتين بما أفقد باريس دورها القيادي لأوروبا والذي سعت اليه وفشلت في ذلك بعد اخفاق «ماكرون» في ايجاد صيغ تفاهم وحوار مباشر مع الكرملين من أجل ايجاد حل للأزمة مع أوكرانيا… وكانت لهذا الفشل نتائج وتداعيات وخيمة على أوروبا برمتها والتي أصبحت «وكيل حرب» لدى أمريكا وواجهة متقدمة لها…
الازمة الروسية الأوكرانية كما ابانت عن ضعف الديبلوماسية الفرنسية وفشلها الذريع ـ أولا ـ في لعب دور قيادي لدول الاتحاد الاوروبي… فإنها فشلت ايضا في تلبية احتياجات شركائها من المنطقتين العربية والافريقية بعدم تمكنها من ايجاد مصادر آمنة لتوفير الغذاء والطاقة لعدد من الدول الافريقية والتي اختارت ـ في الأخير ـ التوجّه الى موسكو عبر اتفاقيات تمويل مباشرة لم يعترض عليها الكرملين ورحب بها الرئيس الروسي «بوتين» لمزيد اضعاف فرنسا ورئيسها «ماكرون» في المنطقتين العربية والافريقية وبالتالي الحدّ من نفوذ فرنسا في افريقيا والتي أصبحت من «الدول» غير المرغوب في تواجدها في الغرب الافريقي أو في جنوب الصحراء خاصة..
ولم تنته خيبات الديبلوماسية الفرنسية عند هذا الحدّ فقد أفسد «ماكرون» علاقة فرنسا بالجزائر والتي وصلت الى درجة عالية من التوتر كادت ان تصل الى قطيعة ديبلوماسية بين البلدين ولم يخف الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون انزعاجه من ديبلوماسية ماكرون فاختار بدوره التوجه الى موسكو حيث التقى بوتين وكانت «الثروة الطاقية» لدى البلدين محورا وعنوانا لاستراتيجيا جديدة في التعاطي مع أوروبا وفرنسا بشكل خاص…
أما عن القضية الفلسطينية فقد أقصت فرنسا نفسها من «الملف» ولم يعد لصوتها أي وجود أو أثر في العقدين الاخيرين خاصة بعد تبدّل موازين القوى في المنطقة وبعد توسع النفوذ الروسي ـ نسبيا ـ وقوة تأثير حلفائها من دول الجوار على غرار ايران وتركيا زائد تحول السعودية الى لاعب اساسي بالمنطقة وكـ«يَدٍ» أمريكية متقدمة اضافة الى اللاعب المصري المؤثر أيضا والاماراتي الداعم ـ باستمرار ـ للموقف السعودي كل هذا دفع فرنسا الى الانسحاب في صمت وحال دونها ودون أن يكون لها صوت مؤثر وقوي في الصراع الفلسطيني الاسرائيلي وخسرت بذلك حضورها بالمنطقة تماما كما خسرت حظوتها ومكانتها في لبنان…
ولم يكتف الرئيس «ماكرون» بكلّ هذه الخسارات للديبلوماسية الفرنسية في «مناطق اللعب التقليدية» لفرنسا بحيث لم يتردد في التنكيل مرة أخرى بصورة فرنسا… ـ فرنسا حقوق الانسان والمساواة والعدل والحريات ـ فوقف على «جثث القتلى» من شهداء غزة أطفالا ونساءً وأعلن مساندته للقاتل دون أدنى تحفظ ووصف «حركات التحرر» بالحركات الارهابية وعلى رأسها «حركة حماس» وقد شبهّها «بداعش» ولم يتردد في الدعوة الى تحالف اقليمي ودولي عسكري للدفاع عن اسرائيل من أجل وجودها الآمن في المنطقة… ولا أدري ـ حقيقة ـ كيف بامكانه ان ينظر لنفسه في «المرآة» وهو يرى حجم الدمار وحجم الجريمة وحجم الدم المستباح في غزة ولا يجرؤ على إدانة المجزرة… ولئن كانت حماس حركة ارهابية ـ كما في توصيف السيد ماكرون ـ فإن اسرائيل «كيان إرهابي» لا يقل خطورة عن «داعش» وكل متواطئ مع هذا الكيان هو شريك ـ بالضرورة ـ في الجريمة ولن يرحمه التاريخ حين تكتبه الشعوب الحرّة…
لقد أحرج «ماكرون» فرنسا ومواطنيها وقرأ «خطاب العار» على مرمى من المجزرة ولن يذكره التاريخ الا ليدينه…!
«قرطاج المسرحية» من التأسيس إلى التأصيل إلى التحديث..!
تنعقد الدورة الخامسة والعشرون لأيام قرطاج المسرحية وسط سياقات دولية ثقيلة على الضمير الان…