لتحقيق عائد اجتماعي وبيئي بالإضافة إلى العائد المالي : «الاستثمار المؤثر» آلية مهمة لتمويل المشاريع..
تزايدت في الآونة الأخيرة أهمية الاستثمار المؤثر كألية مهمة لتعبئة الموارد المالية وتوجيه الاستثمارات نحو المشاريع التي تستهدف تحقيق عائد اجتماعي وبيئي بالإضافة الى العائد المالي. ويعتبر الاستثمار المؤثر واحدا من بين ثلاثة أنواع يشتمل عليها الاستثمار المستدام الذي يعرف أيضا بالاستثمار المسؤول اجتماعيا وفيه يدمج المستثمر العوامل البيئية والاجتماعية والحوكمة في قرارات الاستثمار. يجمع الاستثمار المؤثر ما بين ثلاثة جوانب للأثر تتمثل في الأثر الاجتماعي والبيئي والمالي ويستلزم تحقق ثلاثة شروط أساسية تتمثل في:
1) استهداف تحقيق الأثر: حيث يستهدف المستثمر تحقيق هدف اجتماعي او بيئي، ويحدد النتائج التي سيتم متابعتها والفئات المستهدفة من هذه النتائج.
2) المساهمة في تحقيق الأثر: يتبع المستثمر نهجا و تصورا واضحا يصف كيف يساهم الاستثمار في تحقيق الأثر المستهدف
3) قياس الأثر: يتبنى المستثمر نظاما لقياس الأثر يربط بين المساهمة في الاستثمار والنتائج بما يمكن من تقييم متابعة التقدم المحرز بشكل مستمر واتخاذ الإجراءات التصحيحية المناسبة.
يرتبط هذا النوع من الاستثمارات بتمويل المشاريع التنموية ذات العائد الاقتصادي والاجتماعي الذي يساعد على استدامة التنمية وتحقيق فائدة للمجتمعات التي نفذت بها هذه المشاريع.
بناء عليه، تعول عديد الدول على هذا النوع من الاستثمارات لتحقيق اهداف التنمية المستدامة التي تتنوع ما بين التقليص من مستويات الفقر، وتوفير فرص العمل اللائق ، وضمان الاستهلاك والإنتاج المستدام، والارتقاء بالتعليم في كل مستوياته، والصحة، ودعم البنية الأساسية، ومكافحة تغيير المناخ، وغيرها من الأهداف التنموية الاخرى التي باتت تستحوذ على اهتمام شريحة هامة من المستثمرين الدوليين توجهت مؤخرا نحو هذا النوع من الاستثمارات.
تتمثل بعض الأمثلة لأدوات الاستثمار المؤثر على سبيل المثال في السندات الخضراء التي تم إصدارها في المملكة المتحدة بقيمة 250 مليون جنيه إسترليني وسوف يتم استحقاقها في عام 2025 بهدف تحقيق بعض العائدات البيئية ممثلة في تنفيذ بعض مشروعات الطاقة المتجددة، ومعالجة المياه وخفض التلوث. اضافة الى سندات الأثر التنموي التي تم إصدارها في بعض المقاطعات في الهند لتمويل تعليم الفتيات من خلال تمويل زيادة مستويات التحاق الفتيات بالتعليم، وتحسين مستويات جودته.
وتشير التقديرات الأولية إلى ان المستثمرين في هذا المشروع قد يتمكنون من تحقيق عائد مالي على الاستثمار قد تبلغ نسبته 10في المائة.
كما انه يوجد قرابة 74 إصدارا لسندات الأثر الاجتماعي في 18 دولة تسعى الى تحقيق اثر اجتماعي إيجابي لمعالجة نحو 14 قضية اجتماعية وبيئية تتنوع ما بين خفض معدلات الرسوب المدرسي، ومكافحة الامراض، وخفض معدلات التلوث البيئي، وجودة التعليم، وغيرها من القضايا الاجتماعية الهامة الأخرى.
الاستثمار المؤثر: المكاسب الاقتصادية والاجتماعية
يحقق هذا النوع من الاستثمارات مكاسب اقتصادية كبيرة للحكومات، أهمها تمكين البلدان النامية من تجاوز جانب من فجوة تمويل اهداف التنمية المستدامة. بالتالي فان التحدي الأكبر الذي يواجه حكومات البلدان النامية يتمثل في كيفية تحفيز اليات غير تقليدية ومبتكرة لتمويل التنمية المستدامة.
في هذا السياق، يؤكد مسح لمشاريع الاستثمارات المؤثرة أجرته الشبكة الدولية للاستثمار المؤثر الارتباط الوثيق بين هذه المشاريع وتحقيق اهداف التنمية المستدامة، حيث أشارت 62 في المائة من بين 266 مؤسسة استثمارية مشمولة في المسح وتبلغ اجمالي أصولها المدارة نحو 502 مليار دولار، ان مشاريع الاستثمار المؤثر التي تستثمر بها، تستهدف تحقيق اهداف التنمية المستدامة سواء حاليا او في المستقبل.
شمل المسح المؤسسات الاستثمارية التي استثمرت ما لا يقل عن عشرة ملايين دولار في مشروعات الاستثمار المؤثر، او تلك التي نفذت ما لا يقل عن خمسة مشروعات للاستثمار المؤثر في عام 2018. من جانب اخر ونظرا لكون الاستثمار المؤثر أحد فروع الاستثمار المسؤول اجتماعيا فهو يجسد توجها جديدا لتعزيز روح المسؤولية المجتمعية لدى القطاع الخاص ويعمق من دور القطاع الخاص في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية ويقود نحو قطاع مالي أكثر قدرة على ضمان استدامة النمو والتنمية وتقليل مخاطر الاستثمار غير المسؤول التي كانت سببا في نشوب الازمة المالية العالمية.
كما ان هذا النوع من الاستثمار وعلى خلاف اعتقاد الكثيرين يحقق عائدا مربحا للمستثمرين ويثبت خطأ الانطباع السائد بان المشاريع ذات العائد الاجتماعي تدر عائدات مالية اقل مقارنة بمثيلاتها التقليدية. فوفق عينة من مشروعات الاستثمار المؤثر تشمل 48 مشروعا تم تنفيذها في الهند- التي تعتبر من اهم أسواق الاستثمار المؤثر- بقيمة 5.2 مليار دولار، حقق المستثمرون من هذه المشاريع متوسط عائد على الاستثمارات بلغ 10 في المائة في المتوسط خلال الفترة (2010-2015)، فيما حقق ثلث هذه المشاريع عائدا ماليا بلغ 34 في المائة، مما يشير بوضوح الى انه من الممكن تحقيق عائدات مالية مربحة في المشروعات ذات الطابع الاجتماعي والبيئي.
مبادئ لإدارة الاستثمار المؤثر
رغم التزايد الملحوظ في حجم الاستثمار المؤثر ونشاط الكثير من صناديق الاستثمار في هذه النوعية من المشروعات، الا أن التحدي الذي كان يواجه المستثمرين الذين يرغبون في الدخول في هذا النوع من الاستثمارات كان يتمثل في عدم وجود ضوابط دولية تضمن إدارة المشروعات بشكل يتوافق مع نهج الاستثمار المؤثر بما خلق نوعا من التعقيد والارتباك للمستثمرين بما في ذلك الاختلافات بين هذا النوع من الاستثمارات وغيره من اشكال الاستثمار المستدام.
فقد تم تطوير المبادئ التشغيلية للاستثمار المؤثر من قبل مجموعة من المؤسسات الاستثمارية لوصف الخصائص الأساسية لإدارة الاستثمارات بقصد المساهمة في تحقيق تأثير اجتماعي او بيئي إيجابي قابل للقياس، جنبا الى جنب مع العائدات المالية.
يتبين مما سبق ضرورة بلورة استراتيجيات واضحة وآليات كفءة لتمويل تحقيق اهداف التنمية المستدامة وهناك فرصة كبيرة للاستفادة من الاستثمار المؤثر في تنفيذ العديد من المشاريع ذات العائد الاجتماعي المرتبطة بالأساس بتحقيق اهداف التنمية المستدامة، وهو ما يتطلب العديد من التدخلات على صعيد السياسة العامة لتشجيع هذا النوع من الاستثمارات.
عليه في ما يلي مجموعة من التوصيات ومن الاليات المقترحة وفق أفضل الممارسات العالمية على صعيد صنع السياسات لحفز الاستثمار المؤثر من بينها :
1) تأسيس ودعم صناديق استثمارية متخصصة في مجال الاستثمار المؤثر.
2) دفع الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص لتنفيذ هذا النوع من الاستثمارات من خلال الصناديق الاستثمارية المشتركة
3) تشجيع المؤسسات الاستثمارية والتنموية نحو التوجه الى الاستثمار المؤثر بما يرتبط مع الأولويات التنموية المتبناة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.
يتطلب تعزيز عمل الاستثمار المؤثر وجود رؤى وطنية للتنمية تحدد الأولويات الاجتماعية والتنموية وطرح للمشاريع ذات الأولوية التي يمكن ان يشارك بها القطاع الخاص بما يتضمن كافة التفاصيل الخاصة سواء في ما يتعلق بالاستثمارات المطلوبة، والعائدات المالية والتنموية المتوقعة، والفئات المستهدفة، والمدى الزمني للمشاريع، و بلورة ذلك في اطار عملية تشاركية مع القطاع الخاص ووفق رؤية منسجمة وموحدة.
كما يستلزم تشجيع الاستثمار المؤثر تحسين مناخ الاعمال وإطار متكامل لعمل هذه الاستثمارات بما يشمل بيئة محفزة تتضمن تعريفا دقيقا لماهية هذه الاستثمارات، ومجموعة الأدوات التي يمكن ان ينفذ من خلالها، ومجموعة من الحوافز التي توفرها الدولة لهؤلاء المستثمرين سواء تعلق الامر بالحوافز الجبائية او غيرها من الحوافز الأخرى الجاذبة للاستثمار بحسب مستويات انخراط الاستثمار المؤثر في المشروعات ذات الأولوية التي تحددها الدولة. وهو نهج اتّبعته العديد من البلدات النامية مثل كوريا والفلبين وتايلاند وفيتنام. كما لا يقل أهمية عما سبق تحفيز مؤسسات الاستثمار التي تتجه نحو هذا النوع من الاستثمار الى الالتزام بالمبادئ التشغيلية الدولية للاستثمار المؤثر الصادرة عن مؤسسة التمويل الدولية لتقنين نشاط القطاع وجذب المزيد من المستثمرين الوطنيين والدوليين. كما تساهم كذلك الإصلاحات الخاصة بالقطاع المالي والبنكي (إصلاحات الحوكمة، والشفافية، والمسؤولية الاجتماعية، النزاهة….) في تحفيز المستثمرين نحو تنفيذ العديد من هذه المشاريع.
زيادة مستويات التوعية بدور الاستثمار المؤثر
ما تزال مستويات الوعي بأهمية الاستثمار المؤثر وآلياته منقوصة بشكل هام عن مجتمع الاعمال في الدول العربية وهو ما يستلزم من الجهات المعنية بالاستثمار والسلطات المشرفة على القطاع المالي ان تعمل على زيادة مستويات الوعي بهذا النوع من أنواع الاستثمارات و ان تشجع نشر افضل الممارسات الدولية في هذا الصدد بما يقدم نماذج متكاملة وفهما موحدا لطبيعة هذه المشاريع وقدرة كبيرة على تمكين القطاع الخاص من الوفاء بالتزاماته في اطار المسؤولية الاجتماعية للشركات.